ثانيًا: إن طه حسين كان شديد الحفل بالأسلوب والوضوح في التحليل والتقويم
سواء في طريقة الأداء اللغوي، أو في طريقة التعبير واتجاهاتها ومناهجها، ولعلَّ هذا الحفل أثر من آثار الأسلوب الديكارتي الذي توسَّل به في المقال التحليلي، ذلك أن القاعدة الأولى في هذا الأسلوب تقتضي عدم قبول شيء من الأشياء, أو خبر من الأخبار على أنه صحيح إلّا إذا عرف الكاتب المحلل في وضوح أنه كذلك. ومعنى هذا أن الكاتب المحلِّل يتلافى في حرص: التسرع والاندفاع، ولا يدخل في تقويمه إلّا ما يظهر لعقله على "نحو من الوضوح والتمييز, لا يترك معه مجالًا لوضعه موضع الشك".
ولقد أعانه الأسلوب الاستقرائي في التحليل الصحفي على أن يتصور معظم الأشياء التي يمكن أن تكون محلًّّا لمعرفة الإنسان في ضوء حركة الأحداث، الأمر الذي مكَّن المقال التحليلي من التسلسل على نفس النمط الديكارتي -كما تقدَّم- وأنه لن تكون ثمة دلالات بعيدة إلّا ويصل إليها التحليل في النهاية، ولا غامضة إلّا ويكشفها مهما بلغ من بعدها وغموضها, وذلك من خلال التحليل في ضوء حركة الأحداث، التي تقتضي من المقال عدم الاقتناع بالأفكار, أو الاستنتاجات الخاطئة بحالٍ من الأحوال.
فوضوح التحليل الصحفي من حيث المنهج يقوم على الدقة في مراعاة قواعد الأسلوب الاستقرائي، الأمر الذي ييسِّر للتحليل تفسير جميع المسائل والدلالات التي تنطوي عليها الأنباء في ضوء حركة الأحداث؛ بادئًا بالأبسط والأعم من الدلالات, ناظرًا إلى كل دلالة يصل إليها كقاعدة يستخدمها فيما بعد لكشف دلالات أخرى في التحليل الصحفي، ومن هنا ينجح المقال التحليلي في إقناع القارئ بأن الدلالات التي وصل إليها لن تبدو عديمة الجدوى، حين نتفق مع ديكارت١ على أن "لدينا حقيقة واحدة لكل شيء, وأن أي امرئ يكتشفها يعرف عنها كل ما يستطيع أن يعرفه إنسان"٢، الأمر الذي يتيح للتحليل الصحفي تفهُّم موضوعاته بشكل أكثر تميزًا ووضوحًا، من خلال البحث عن كل ما يتعلق بموضوع معين في إطار الحركة العامة للأحداث، ذلك أن التحليل الصحفي في سبيل الوصول إلى دلالات الأنباء يرفض روابط القياس, ولا يثق إلا في الاستقراء, "وهو الطريق الوحيد الذي يكون باقيًا أمامنا؛ لأن جميع القضايا التي تستنبطها -مباشرة الواحدة من الأخرى, تخضع منذ تلك اللحظة للحدث الحق، على شرط أن يكون الاستنباط يقينًا. ولكننا لو أخذنا نتيجة عدة قضايا متعددة لا رابطة بينها، فإن مقدرة عقلنا لا تكون