للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الفضائل مع كونها أكمل جدا من الفضائل التي تلمع وتبرز بسبب امتزاجها ببعض النقص، غير أنه لما كانت العامة أقل التفاتا إليها، لم تجر العادة بأن تنظم لها عقود الثناء١.

يضاف إلى هذا أن من بين الأمرين المطلوبين للحكمة على نحو ما وصفنا -أعني: إدراك الذهن لما هو خير، واستعداد الإرادة لأن تتبعه على الدوام- أن هنالك أمرا هو مناط الإرادة وحده يمكن أن يملكه الناس جميعا على السواء؛ نظرا إلى أن قرائح بعض الناس أقل جودة من قرائح غيرهم٢. ولكن مع أن من لم يرزقوا جودة القريحة يستطيعون أن يبلغوا من الحكمة ما تؤهلهم له


١ في هذه الفقرة الموجزة فرّق ديكارت بين الفضائل الظاهرية والفضائل الحقيقية. وفي الفضائل الحقيقية ميز بين تلك التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة وتلك التي تكون مصحوبة بجهل أو خطأ, والفضائل الظاهرية هي رذائل يظنها العوام فضائل كالتهور والتبذير. ومن الفضائل الحقيقية ما ينشأ أحيانا من عيب أو خطأ؛ فالبساطة يمكن أن تكون علة لرقة القلب، واليأس علة للشجاعة. أما الفضائل الكاملة فمصدرها معرفة الخير، ويرى ديكارت أن الخير لا يفترق عن الحق؛ فإنه "لما كانت إرادتنا لا تتجه إلى الإقدام على شيء أو تجنب شيء إلا حسبما يقدمه الذهن لنا على أنه حسن أو سيئ، فيكفي أن نحكم حكم حسنا لكي نعمل عملا حسنا". فلا فرق عند ديكارت بين حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية؛ لأن الإرادة تتوجه بالأفكار، وهي تعمل حسنا حين تسترشد بأفكار واضحة متميزة, وتعمل سيئا حين تترك زمامها لأفكارها غامضة مبهمة. وإذن فالعلم والفضيلة شيء واحد, وكذلك الخطأ والرذيلة لا يفترقان، ودستور إرادتنا هو أن نريد أن نظلم العالم: "فليس هنالك أمر هو كله في مقدورنا إلا خطرات نفوسنا". وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نسعى إلى تغيير رغباتنا بدلا من أن نفكر في تغيير نظام العالم. وينتج من ذلك أن الفضيلة واحدة لا تتجزأ، فمن ملك فضيلة واحدة فقد ملك الفضائل جميعا, ونتبين في هذا العرض الموجز للأخلاق الديكارتية أثر المذاهب الأخلاقية عند سقراط والرواقيين. "انظر كتابنا "الفلسفة الرواقية"، الطبعة الثانية، القاهرة ١٩٥٩، وأيضا: كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة ١٩٥٧".
٢ لكل إنسان ذهن، أي: ملكة يتصور بها الأفكار الواضحة المتميزة، لكن طاقة هذه الملكة ليست بدرجة واحدة عند الناس جميعا. غير أن هذا لا يعني أن بين الناس اختلافا في الماهية؛ لأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.

<<  <   >  >>