للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ذهب كونت إلى أن الحالة الثانية ضرورية كنقطة اتصال بين نوعين متضاربين من التفكير. بهذا المعنى، فإن الحالة الميتافيزيقية احتوت إلى جانب التفسير اللاهوتي للظواهر على قوانين وفروض لا تعترف بإرادة غيبية, وإنما يقوم العقل عند شرحه للظواهر بإرجاع كل ظاهرة إلى ذاتها الملائمة لها.

أما الحالة الوضعية، فيقصد بها ذلك المنهج الذي يقدم تفسيرا علميا لجميع الظواهر الطبيعية والإنسانية مع استبعاد الفروض الخيالية, والإرادات الغيبية واستبدالها بقوانين دقيقة ثابتة.

يلتزم التفكير العلمي بقبول اختبارات الملاحظة كشواهد قاطعة على صحة أية فرضية, غير أن العلم لا يقتصر على مجرد تقارير تعتمد على الملاحظة. فعلم الطبيعة مثلا لا يتميز بتراكم لوقائع جزئية, وإنما بصياغة فروض عامة ونظريات تربط هذه الوقائع بوقائع أخرى بطريقة نظامية. بعبارة أخرى: لا يمكن التسليم بظهور علم ما، إلا بعد ربط الوقائع بعضها بالبعض الآخر, وفوق كل ذلك عندما تفهم الظواهر المفردة على أنها جزء من أنواع كاملة تضم الظواهر المماثلة التي تخضع من حيث وجودها لعلاقات هي أشبه بالقونين سواء كانت تلك الظواهر مترافقة, أو متعاقبة.

أي: إن العقل في هذه المرحلة الثالثة والأخيرة يتخلى عن بحثه العقيم عن المفاهيم المطلقة, وعن أصل الكون ومسيره وعلل الظواهر، وينهمك بدلا من ذلك في دراسة قوانين تلك الظواهر بمعنى استقصاء علاقاتها الثابتة في التعاقب والتماثل, مستعينا في الحصول على تلك المعرفة بالملاحظة والتعليل. وتمهد هذه الحالة الأخيرة في رأيه لوضع فلسفة علمية يمكن أن تتخذ أساسا للدين والأخلاق, وإن كانت آراؤه حولهما تحتاج لمزيد من التوضيح.

أثرت الأفكار والأوضاع التي جاءت بها الثورة الفرنسية على أوجست كونت, شأنه في ذلك شأن بقية المفكرين والفلاسفة الأوروبيين. فقد أرست

<<  <   >  >>