للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقتئذ. وعلى ضوء تلك النشأة يجب فهم, وتقييم تلك المدرسة التي تعبر عن مصالح طبقية محددة تحاول تغطيتها بكثرة الكلام عن العلم.

رفضت الماركسية ادعاء الوضعية بأن الإنسان في المرحلة الثالثة التي أسمتها الحالة الوضعية يجب أن يهتم فقط بالعلوم التجريبية والنتائج التي تسفر عنها. فالوضعية ترفض -كما أوضحنا- البحث في الوجود ككل أو في الطبيعة كوحدة بحجة منافاة ذلك للعلم, أو بشكل أدق لمنافاته لمفهومها للعلم الذي تظن أنه لا يتناول إلا مجالات متفرقة من الواقع.

بعبارة أخرى: تحبذ الوضعية تفتيت الواقع باسم العلم وإحلال ما يتمخض عن ذلك من علوم متفرقة محل الفلسفة. بذلك تتخلص الوضعية من إحدى المشاكل الأساسية التي تهتم بها الماركسية, وهي تحديد العلاقة بين الوجود والوعي, وهي علاقة لا تستحق الاهتمام في نظر الوضعية؛ لأنها بلا موضوع.

لهذا تحكم الفلسفة الماركسية على الوضعية بأنها فلسفة مثالية, مهما استترت بدعاوى العلم. والمقصود بالمثالية هنا هو المعنى الفلسفي حيث تبدأ من حالة بعيدة عن الواقع, فهي إذًا فلسفة الهروب والابتعاد عن الواقع.

فالوضعية مثالية من هذا المنطلق؛ لأنها تصرف الناس عن الإيمان بحتمية الواقع المادي وقوانينه على أساس أن ذلك الواقع ليس ماديا يتغير وفق قوانين حتمية, وإنما هو عبارة عن مجموعة الخبرات الحسية التي يحصل عليها الإنسان, أي: إن نقطة البدء في الوضعية هي الاحساسات, أي: الذات, وليس الواقع الخارجي.

تضيف الماركسية نقدا آخر ينصب على موقف الوضعية من تاريخ الفلسفة وتصفه بالرجعية؛ لأنها تحاول إنكار الارتباط الوثيق القائم بين الفلسفة والعلم، ولأنها أيضا تتعالى على التراث الإنساني في مجال الفكر الفلسفي. فباسم العلم الحديث تحاول الوضعية التقليل من قيمة العقل البشري, وأفضل إنجازاته التي لا تقدر بثمن وادعاء تعارضها مع ذلك العلم الحديث، مع التشكيك في صحة

<<  <   >  >>