للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد، كان في تفرقهم اجتماعٌ على النعملفضلاء العباد، إذ نفقوا سوق العلوم، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول: العالم الفلاني عند الملك الفلاني، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران، وسمعت عن الملوك العربية: بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح (١) ، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم تهادي النواسم بين الرياض، وتفتك في أموالهم فتكة البراض، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمائة دينار وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه (٢) في قسمه، ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً أن أبا غالب اللغوي ألف كتاباً، فبذل له مجاهد العامري ملك دانية ألف دينار ومركوباً وكسىً على أن يجعل الكتاب باسمه، فلم يقبل ذلك أبو غالب، وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري، وأصرف الفخر له، لا أفعل ذلك، فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته، وأضعف له العطاء، وقال: هو في حلٍ من أن يذكرني فيه، لا نصده عن غرضه (٣) . وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا (٤) في ملاءة الحضر، فإني أخص منهم بني عباد، كما قال الله


(١) م: النهار.
(٢) م: شرط.
(٣) مرت الحكاية في رسالة ابن حزم؛ انظر ما تقدم ص: ١٧٢.
(٤) الصواب إسقاط " في "، من قول الخنساء: يتنازعان ملاءة الحضر.

<<  <  ج: ص:  >  >>