للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بحيث يكون إدراك المعنى الثاني من الأول بعيدًا عن الفهم, يحتاج إلى تكليف وتمحل بسبب استعمال اللفظ في معنى خفي لزومه للمعنى الأول, كقول العباس بن الأحنف١:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا٢

يطلب الشاعر البعد عن أحبته, غير مبالٍ بما يعانيه في ذلك من غصص الفرقة وآلام النوى, كما يطلب اكتواءه بنار الأسى على فراقهم، وبلوغه الشوق إليهم عساه فيما بعد يحظى بوصل مقيم، وفرح لا يزول، وكأنه بهذا الطلب يخادع الزمان، ويغالطه ليوافيه بضد ما يطلب، على عادة الدهر من محاربته الناس في مطالبهم ووقوفه حائلًا دون ما يأملون، وبذلك يتم للشاعر في غفلة الدهر ما أراد من لقاء الأحبة، والابتهاج والأنس بهم، على حد قول الشاعر:

ولطالما اخترت الفراق مغالطًا ... واحتلت في استثمال غرس ودادي

ورغبت عن ذكر الوصال لأنها ... تبني الأمور على خلاف مرادي

والشاهد في قوله: "لتجمدا" فإن ابن الأحنف لم يوفق في أداء المعنى الذي أراده من هذا اللفظ على وجه صحيح؛ ذلك أنه أراد أن يكني عما قصده بكنايتين أصاب في إحداهما، وأخطأه الصواب في الأخرى.

بيان ذلك: أنه دل أولًا بسكب الدمع على ما يوجبه فراق الأحبة من الحزن والكمد، فأحسن وأصاب المحزن في هذه الكناية، فإن البكاء عادة يكون أمارة الحزن وعنوانه، كما يكون الضحك دليلًا على الابتهاج والسرور, فيقال: أبكاني وأضحكني على معنى: ساءني وسرني. ومنه قول الشاعر:

أنزلني الدهر على حكمه ... من شامخ عالٍ إلى خفض٣

أبكاني الدهر ويا ربما ... أضحكني الدهر بما يرضي


١ من ندماء هارون الرشيد, وكان لطيف المجلس فكه الحديث.
٢ تسكب بالرفع عطف على "أطلب" وبالنصب عطف على "بعد" من عطف الفعل على اسم خالص من التأويل، والمراد طلب استمرار السكب لا أصله؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل.
٣ هو لحصان المعلمي من شعراء الحماسة, وقد كنى في البيت التالي بإبكاء الدهر له عن إساءته, وبإضحاكه له عن سروره.

<<  <  ج: ص:  >  >>