يجرعها غصصا، بسبب خليلة كانت له، ولكن بعد وفاته نسيت كل ذلك وحزنت على فراقه وقد ترك لها فراغا عظيما في كل شيء, حتى إنها إذا كتبت إلى شركة تطلب منها بضاعة تحذف آخر اسمها ليظن المكتب إليه أنها رجل فلا يتهاون بطلبها.
وأخبرتني أيضا أنه يأتي إلى بابها أحيانا بعض المساكين الذين يسألون الصدقة على الأبواب خلافا للقانون، فترحم السائل ولا تحب أن ترده، ولكنها تلقي إليه الفلوس من شق الباب، وتخاف أن تفتح له الباب، فيكون لصا في صورة سائل.
وكانت لي في برلين جارة لها ثلاثة أولاد صغار، فكنت حين أسمع صفارة الإنذار أسمع معه بكاء المرأة وأولادها! لأن عليها أن تملأ سطلا كبيرا تعده لإطفاء الحريق وتوقظ أولادها الثلاثة، وتلبسهم ثيابهم، وتأخذ لهم شيئا يأكلون وشيئا يشربون، لأن مدة الغارة قد تدوم ست ساعات أو أكثر، وفي ذلك الوقت - وهو من أول الحرب إلى سنة ١٩٤٢ - كانت الغارات الجوية لا تأتي في الغالب إلا ليلا.
وبهذه المناسبة أذكر أن الغارات في أول زمان الحرب كانت قسمين: غارات روسية، وعلامتها أن تأتي بعد الغروب بنصف ساعة لقرب الروس، وهذه لم يكن الألمان يخافون منها، وأكثرهم لا ينزلون إلى الملاجئ وغارات إنكليزية، وهذه كانت تفتك فيهم فتكا ذريعا، وكان الألمانيون يحسبون لها حسابا وأي حساب.
قلت: إني كنت أسمع بكاء تلك الأم وأولادها، ولم يكن لها جار من الرجال غيري، فكنت آخذ أحد الأولاد في يدي وننزل الدرج، وفي أكثر الأحيان لم تكن الغارة الجوية تمهل هذه المرأة حتى تستعد للنزول، فكانت رعود الغارة والمدافع المضادة لها وبروقها تبتدئ قبل نزولنا، فكان هؤلاء المساكين يتوقفون مرتجفين عن عبور المسافة التي بين دهليز الدرج وباب السرداب لأن هذه المسافة مكشوفة تحت السماء بلا حاجب، فكنت أشجعهم حتى يعبروا، فإذا نزلت معهم أربع درجات من السرداب رجعت، لأني لم أكن أختبئ من أجل خصومة وقعت بيني وبين مراقب المخبأ, وفعلا وقعت القنابل على تلك الدار واحترقت الغرفة التي كنت أنام بها بما فيها، ولكن بعد خروجي من ألمانيا.
ولو ذهبنا نعدد الأدلة على حاجة المرأة إلى قوامية الرجل وحمايته لطال بنا القول.