الطرِب فلم يتمالك أن تملص من در اعته، وحكَّم المغني في جائزته، فطلب أن يُقطعه عين مروانَ بالمدينة، ثم لم يتخل عن ذلك الطلب إلا بعد أن أطلق الهادي يده في بيت مال الخاصة فكانت الفدية خمسين ألف دينار! ٨٤/٥ أ-١٨٥. ومثل هذا السفه هو المرتكز الأساسي في مرويات الأصفهاني، وحسبك من ذلك الخبرُ الذي يريك الخليفة وقد طاش وعيه من السكر والانتشاء إذ سمع لحنا غناه به إبراهيم فلم يجد ما يكافئه عليه بأقل من (الهنيء والمريء) وهما ضيعتان مشهورتان من أعمال الرقة وتُسقيان من الفرات. يقول المغني إبراهيم:(فلما أصبحت عُوّضتُ عنهما مئتي ألف درهم- أي اثنين وعشرين ألف دينار- مقابل غنائه ليلة واحدة، ولعله لم يزد عن بيت واحد ٠٠/ ١٦٦.
وسواء صحت هذه الأخبار المحيرة أم ضعفت فمما لا يتسع للخلاف أنها تعكس واقعا له جذوره، التي نمت وتفرعت حتى تركت طابعها على الكثير من جوانب ذلك المجتمع المتناقض..
ولعل القارئ لم ينس بعد خبر ذلك العائل الفقير الذي هجر مكة وفيها زوجه تنتحب لفراقه، ليكدح في جدة طلبا للرزق، وقد سرت عدوى الغناء إلى قلبه فلا يتمالك أن يتسلى بترجيعه ابتغاء التخفيف من أعبائه.. ولهذا القارئ أن يضيف الآن إلى ذلك المشهد خبر ذلك النبطي الفلاح الذي ارتضاه إبراهيم وابنه إسحاق حكما بينهما في أيهما أفضل غناء من الآخر، فأصغى الفلاح إلى كل من المغنيين على حدة ثم أصدر حكمه للوالد على ابنه، فلم يستطع هذا اعتراضا ورضى من الغنيمة بلطمة من أبيه يقول انه لم يمربه مثلها ١٩٩- ٢٥٥.
ولا غرو فالناس دائما على دين ملوكهم، وفي القانون الإلهي الذي نقرؤه في قوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} الإسراء/ ١٦ نجد مصداق ذلك. لأن من معاني (امرنا مترفيها) أكثرناهم حتى غلبت طرائقهم على مجتمعهم ففسد تركيبه ففقد صلاحية الحياة فصار إلى الدمار.. وهو القانون الذي مضى حكمه في الأندلس ثم في الدول الإسلامية كلها فكانت ولا تزال عبرة المعتبرين!!.
ومن هنا كان ذكر المترفين في كتاب الله مقروناً أبداً بالذم والتسفيه.. وكان انتصار