إلى جانبِ آخرين أكثرهم من الكذابين الوضاعين أو المجهولين أو الساقطين من مشهوري الشعوبيين، وهي مصيدة خطرة لقصار النظر وقليلي العلم بموضوع الأسانيد، فما إن يبصرون هذه القائمة من أسماء الرواة حتى يسلموا إليها قيادهم، ويتلقوا مضمونها بالقبول القاطع كأنها وحي يوحي.. وتزداد المحنة شدة بما تطرحه في أذهان البسطاء من كون هذه العينات من الهبوط الأخلاقي نماذجَ واقعيةً لما كان عليه السلف من ازدواجية في السلوك تجمع بين الوقار المؤَتمن والفجور الهدام، ثم لاتلبث أن تتسلل إلى سلوكهم ثم إلى مَن حولهم من طبقات المجتمع، حتى تزول الحواجز الفاصلة بين الحسن والقبيح والصالح والفاسد من الأقوال والأعمال.. فكيف إذا كان هؤلاء المتلقون من طبقة الفارغين ذوي اليسار الذين استهوتهم مُتَع الدنيا فلا شاغل لهم سوى الاجتماع على ذكرها وتتبع مروياتها، فعليها يتكئون في إذاعة مذاهبهم الماجنة، وحجتُهم المسوّغةُ هي هذه الأخبار الملغومة التي يرويها كبار الكتاب، وتصور الواقع المحجوب لكبار الفضلاء!..
ثم هناك عامل آخر كان له أثره الفعال في تثبيت هذه المرويات الكاذبة أيام الأصفهاني، يتمثل لا ندرة النسخ المخطوطة من مراجعها الأصلية، بحيث لايصل إلى احتيازها سوى المتحكمين في مصاير المجتمعات من الأمراء وحواشيهم من المترفين ومدمني اللهو، الذين لا يهمهم من مثل كتاب الأصفهاني ما ينطوي عليه من الحقائق الموضوعية، بل كل ما يتطلعون إليه هو الحصول على ما يعوز أسمارهم من الطرائف التي تخفف عنهم أعباء العمل الجاد وتطلق ضحكاتهم المدوّية. فهؤلاء وحدهم القادرون على شرائها بمئات الدنانير.. فهم محتكروها فلا يكاد يصل خبرها إلى أوساط العلماء، الذين على جهودهم تتوقف سلامة المجتمعات الإسلامية من التلوث.. ولولا أن يَسَّر الله لبعض الهداة مِن حَفَظَة التاريخ الإِسلامي وممحصي الروايات سبيل الاطلاع على بعض الأجزاء من ذلك الكتاب المسمَّم ففضحوا مؤامراته وكشفوا الستور عن مفترياته، كالخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد في الأولين، ووليد الأعظمي في المتأخرين، لظل محجوبا مقصورا على حلقات العابثين والماجنين..