للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أما الناظر إلى تلك المشكلة من الزاوية الواقعية فكان لابد أن يتذرع لمواجهتها بشيء من الحيلة، إذ غدا أمراً مستعصياً؛ ولهذا نرى ابن رشيق يتناولها على مستويات مختلفة: فإذا استطاع الشاعر أن يقول الشعر بدوافع ذاتية ولم بقله رغبة أو رهبة أو مدحاً أو هجاء فذلك زائد في أدبه شاهد بفضله؛ ولكنه إذا لم يستطع ذلك وكان ضئيل المنزلة فاحب أن يرتفع فيها فنال بشعره الرتب واتصل بالملوك فليس ذلك بدعاً مستغرباً منه؛ أما المعيب فهو أن يكون الرجل سرياً شريفاً فيصنع الشعر ليتكسب به المال دون غيره وهو يعلم أن الشعر " أبقى من المال وانفس ذخائر الرجال " فذلك إذا مدح من فوقه سمي ضارعاً، وإذا مدح مساويه نزل عن درجة المساواة، وإذا هجا من دونه ضل ضلالة وتم خزيه (١) ؛ ويقرر ابن رشيق مبدأ للتكسب - وهو عارف بفضل التعفف الذي مارسه كثير من الشعراء ممن " وقر نفسه وقارها وعرف لها مقدارها حتى قبض نقي العرض مصون الوجه ما لم يكن به اضطرار تحل به الميتة فأما من وجد البلغة والكفاف فلا وجه لسؤاله بالشعر " (٢) - ويعتمد هذا المبدأ على التساهل في أخذ الشعراء من الملوك والرؤساء الجلة (كما فعل النابغة وزهير) ، والشعراء في ذلك معذورون أكثر من أهل الورع والفتيا، فأما الذميم فهو مسلك الحطيئة (فقبح الله همته الساقطة - على جلالة شعره وشرف بيته - وقد كانت الشعراء ترى الأخذ ممن دون الملوك عاراً فضلاً عن العامة وأطراف الناس " (٣) . وقد كانت هذه الوقفة، سواء في نهكم المعري أو في تسويغ ابن رشيق، يقظة قصيرة المدى على الحال الزرية التي بلغها ارتباط الشعر بعطف السادة والكبراء وكل من يستطيع أن يمد يد الإحسان للشعراء؛ ولذا كانت اضعف من أن تكسر القيود المستحكمة، التي طال عليها الامد، وأصبح الخلاص منها - بحكم الأوضاع الاقتصادية -


(١) العمدة ١: ٢١.
(٢) العمدة ١: ٥١.
(٣) العمدة ١: ٥٢، وانظر ٢١ أيضاً.

<<  <   >  >>