للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وقال للشافعي: "إني إنما أختلف إليك لأجل العلم والزهد في الدنيا، فتأمرني أن ألي القضاء، ولولا العلم لما أكلمك بعد اليوم، فاستحى الشافعي منه"١.

والأمثلة على ورعه كثيرة، نحو قول أبي عبد الله السمسار: "كانت لأم عبد الله بن أحمد دار معنا في الدرب، يأخذ منها أحمد درهما بحق ميراثه، فاحتاجت إلى نفقة لتصلحها فأصلحها ابنه عبد الله؛ فترك أبو عبد الله الدرهم الذي كان يأخذه، وقال: قد أفسده علي، قلت: إنما تورع من أخذ حقه من الأجرة؛ خشية أن يكون ابنه أنفق على الدار مما يصل إليه من مال الخليفة٢.

إن الإمام أحمد لم يذق طعاما من حاكم تنَزّها عنه، وكان يتصدق بخلع المتوكل ولا يقبل أن يلبسها على جسده، وأبى أن يسكن في قصر يبنيه له، وأوصى أن يكفن في ملابسه؛ خشية أن يقبل أولاده من أحد كفنا له.

ولم يكن ورعه قاصرا على مأكله وملبسه ومسكنه، بل شمل علمه الذي كان يتقنه، وهو درايته بالحديث وإجادة حفظه، فهذا علي بن المديني يقول: (ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد بن حنبل، وبلغني أنه لا يحدث إلا من كتاب، ولنا فيه أسوة"٣.

وهذا ابن الحربي يقول: "لزمت أحمد بن حنبل سنتين، فكان إذا خرج يحدثنا يخرج معه محبرة مجلدة بجلد أحمر وقلما، فإذا مر به سقط أو خطأ في كتابه أصلحه بقلمه من محبرته، يتورع أن يأخذ من محبرة أحدنا شيئا، وكنا نقول لأحمد في الشيء يحفظه، فيقول: لا، إلا من كتاب"٤.

وشهد له الناس بالتواضع، فهو لا يتقدم الناس في الخروج من المسجد، بل يجعلهم يتقدمونه، وهو لا يفتخر بحسبه ولا نسبه ولا بعلمه وفضله، وكان يسأل الله دائما أن يجعله خيرا مما يظنون ويغفر له ما لا يعلمون.

يقول فيه يحيى بن معين: "ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا مما كان فيه من الصلاح والخير"٥.

وكان يؤثر العزلة والوحدة، هروبا من الشهرة، وتحصيلا للمعرفة، وتجنبا للقيل والقال، فهو يرى الخلوة أروح لقلبه؛ تذكره بربه، ولكنه كان لا يتخلى عن واجب اجتماعي


١ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص١٠٧.
٢ طبقات الحنابلة للقاضي ابن أبي يعلى ج ١ ص ١٠..
٣ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٦٠.
٤ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٢٦.
٥ مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي ص٢٧٤.

<<  <   >  >>