للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الإفهام تناقضا، ليس هو كذلك في الواقع. وما تتوهمه إسقاطا، أو تصرفا في نص، إنما هو في دقة تنفيذه في الحقيقة.

وقد ضرب ابن القيم لذلك بعض الشواهد، فوفق بين قوله –عليه الصلاة والسلام-: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" وبين قوله: "من رأى من أميره ما يكره فليصبر، ولا ينزعن يدا من طاعة".

وبين ابن القيم وجه تعطيل الحد في السفر (حين أتى برجل من الغزاة قد سرق فلم يقطعه بسر بن أرطأة١) ويرى ابن القيم أن ذلك لم يكن تعطيلا للحد، أو تغييرا للحكم، أو إسقاطا للعقوبة. كما قد يتوهم المتوهمون.. وإنما كان ذلك تطبيقا للنص من بعض وجوهه. فقد نهى رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "أن تقطع الأيدي في السفر والغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تأخيره. بأن يلحق صاحبه بالمشركين".

ثم ذكر ابن القيم، قصة أبي محجن٢: حين شرب الخمر يوم القادسية، فلما أبلى في القتال بلاء حسنا لم يقم سعد ابن أبي وقاص عليه الحد، "لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله" ... ثم عقب ابن القيم على ذلك كله فقال: "وليس في هذا ما يخالف نصا، ولا قياسا، ولا قاعدة من قواعد الشرع، ولا إجماعا". "وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة كما يؤخر الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض"٣.

هذا هو مجمل كلام ابن القيم: لا نرى فيه جانبا واحداً يدل على: أنه قصد –فيما قال- إلى جواز تغيير


١ هو: بسر بن أرطأة " أو أبي أرطأة " العامري القرشي أبو عبد الرحمن. قائد فتاك من الجبارين. ولد بمكة قبل الهجرة أصيب في عقله على آخر أيامه وبقي كذلك إلى أن مات بدمشق وقيل بالمدينة سنة ٨٦ هـ.
٢ عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، بطل شاعر كريم، أسلم سنة ٩هـ كان منهمكا في شرب النبيذ. فلما وقعت قصته مع سعد ترك النبيذ، وقال كنت آنف من أن أتركه من أجل الحد. توفي بأذربيجان سنة ٣٠هـ. انظر: خزانة الأدب للبغدادي ٣/٥٥٣.
٣ انظر: إعلام الموقعين ٣٠/١٩.

<<  <   >  >>