للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقد صورها النص بصورة مطابقة لصورة الراشي والمرتشي بطرفيها؛ حيث قال: {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} ، والإدلاء إرسال الدلو إلى ماء البئر، ولا يكون إلا بالحبل، وحبل الدلو يسمى رشاء؛ فالرشاء والرشوة من مادة واحدة، والمدلي هو الراشي، والمدلى إليه هو المرتشي، وما في الدلو هو الرشوة.

والغاية ليست الحصول على ماء طهور لشراب أو وضوء، ولكن لنقضه من سحت وإثم لأكل فريق من أموال الناس بالإثم عن علم وسبق إصرار، ولما كان التدلي نقيض الترفع فإنه يمكن أن يقال: إن هذا النص يعطينا حكما على المرتشي بأنه تدلى من منعة العزّ إلى هوة الذل، ومن رفعة الصدق إلى سحيق الكذب، ومن علياء العفة والأمانة إلى حضيض ودنس الشره والخيانة، وانزلق عن جادة الحق إلى مزالق الباطل.

وقد خصص هذا النص الرشوة في الحكام مع أنها ليست قاصرة عليهم، ولكنها منهم أعظم خطرا وأشد فتكا؛ لأنهم ميزان العدالة؛ فإذا فسد الميزان اختل الاتزان، وإذا خان الوازن ضاع التوازن، ومن ثم ينتشر الفساد.

وقد يكون يتعلق بالأحكام فيكون من ورائها تغيير حكم الله مما يخاف على صاحبه الكفر - عياذا بالله - إذا كان مستحلا لذلك أو مستهزئا، عافانا الله والمسلمين!.

وسيأتي لذلك زيادة إيضاح عند الكلام على بقية النصوص، وفي الفصل الخاص بمضار الرشوة.

وقد يكون الحاكم عفيفا نزيها ولكنها تعطى الأطراف كشاهد وكاتب لوثيقة زورا وبهتانا، أو لأي طرف له تأثير في الموضوع.

النص الثاني: جاء في سورة المائدة، وكذلك الثالث، وذلك في مسمى السحت الذي تقدم بيانه عند التعريف لغة واصطلاحا، وسنلم بكل منهما على حدة.

أ- قال تعالى عن المنافقين واليهود: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .

وعلى ما قدمنا من ضرورة أخذ السياق كاملا، وهو هنا من أول تشريع حد السرقة: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ..} الآية، ثم توابع السرقة - من توبة وحق الله تعالى في التشريع - يأتي خطاب الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا} ، ثم يصف أعمالهم بقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ

<<  <   >  >>