وليس قولنا " طبع الإنسان على حب الإخبار والاستخبار " حجةً له على الله، لأنه طبع على حب النساء ومُنع الزنى، وحبب إليه الطعام ومُنع من الحرام. وكذلك حُبِّب إليه أن يخبر بالحق النافع ويستخبر عنه، وجعلت فيه استطاعة هذا وذاك، فاختار الهوى على الرأْي.
ومما يؤكد هذا المعنى في كرب الكتمان وصعوبته على العقلاء فضلاً عن غيرهم، ما رووه عن بعض فقهائهم أنه كان يحمل أخباراً مستورة لا يحتملها العوامّ، فضاق صدره بها، فكان يبرز إلى العراء فيحتفر بها حفيرةً يودعها دنّاً، ثم ينكب على ذلك الدّنّ فيحدثه بما سمع، فيروح عن قلبه، ويرى أن قد نقل سره من وعاء إلى وعاء.
وكان الأعمش سيئ الخلق غلقاً، وكان أصحاب الحديث يضجرونه ويسومونه نشر ما يحب طيَّه عنهم، وتكرار ما يحدثهم به، ويتعنتونه، فيحلف لا يحدثهم الشهر والأكثر والأقلَّ، فإذا فعل ذلك ضاق صدره بما فيه، وتطلعت الأخبار إلى الخروج منه، فيقبل على شاةٍ كانت له فيحدثها بالأخبار والفقه، حتى كان بعض أصحاب الحديث يقول:" ليت أني كنت شاة الأعمش ".