وليست في الكتب عِلَّةٌ تمنع من درْك البُغية، وإصابة الحُجّة؛ لأنَّ المتوحِّد بقراءتها، والمتفرِّد بفهم معانيها، لايُباهي نفسه، ولا يغالب عقْله.
والكتاب قد يفضل صاحبه، ويرجح على واضعه بأمور: منها أنَّه يوجد مع كل زمانٍ على تفاوت الأعصار، وبُعد ما بين الأمصار. وذلك أمرٌ يستحيل في واضع الكتاب، والمنازع بالمسألة والجواب. وقد يذهب العالم وتبقى كتبه، ويَفْنى المعقِّب ويبقى أثره. ولولا ما رسمتْ لنا الأوائل في كتبها، وخلَّدت من عجيب حكمها، ودوّنتْ من أنواع سيرها؛ حتَّى شاهدنا بها ما غاب عنا، وفتحنا بها المستغْلق علينا، فجمعْنا إلى قليلنا كثيرهم، وأدركنا ما لم نكن ندركُه إلاَّ بهم لقد خسَّ حظُّنا في الحكمة، وانقطع سببنا من المعرفة، وقصُرت الهمّة، وضعفت النيَّة، فاعتقم الرّأي وماتت الخواطر، ونبا العقل.
وأكثر من كتبهم نفعاً، وأحسن ما تكلّموا به موقعاً، كتب الله التي فيها الهُدى والرحمة، والإخبار عن كلّ عبرة، وتعريف كلِّ سيِّئة وحسنة.
فينبغي أن يكون سبيلُنا فيمن بعدنا كسبيل من قبلنا فينا. على أنّا قد وجدنا من العبرة أكثر ممَّا وجدوا، كما أنَّ من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا.
فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده، والنَّاشر للحقِّ من القيام بما يلزمه.