والحسد وإن كان موكلا بالأدنى فالأدنى فإنه لم يعر منه الأبعد فالأبعد. فقد رأينا وشاهدنا من كان يسكن العراق وينتحل العلم والأدب، انتهى إليه خبر مشاركٍ له في الصناعة من أهل خراسان وجنْبة بلْخ من اتساق الرياسة في بلده، وجميل حاله ونبيل محلِّه عند أهل مصره، وطاعة العامة له، وترادف الناس عليه، فطار قلبه فرقاً، وأخذتْه الأرْباء، وتنفس الصعداء وانتفض انتفاض المفلس الممطور، فقال لي رجلٌ من إخواني كان عن يميني، حين رأى ما رأى منه: بحقٍّ قال من قال: " لم يُر ظالم أشبه بمظلوم من حاسد نعمة؛ فإن نفسه متّصل، وكربه دائم، وفكرته لا تنام ".
وهو في أهل العلم أكثر، وعليهم أغلب، وبهم أشدُّ لصوقاً منه بغيرهم من الملوك والسُّوقة. وكأن من ناله التقصير في صناعة العلم عن غايته القصوى قد استشعر حسد كل ما يرد عليه من طريف أدبٍ، أو أنيق كلام، أو بديع معنىً. بل قد وقع بخلده لضعفه، وقرَّ في روعه لخساسته، أنه لا ينال أحدٌ منهم رياسةً في صناعة، ولا يتهيأ له سياسة أهلها، إلا بالطَّعن