وذهبَ قوم من أهلِ الحديثِ وغيرُهم إلى أنَّ هذهِ الأعمالَ تُكفِّرُ الكبائرَ.
ومنهُم ابنُ حزمٍ الظاهريُّ، وإيَّاه عنى ابنُ عبدِ البرِّ في كتابِ "التمهيدِ" بالردِّ
عليه، وقالَ: قد كنتُ أرغبُ بنفسِي عن الكلامِ في هذا البابِ، لولا قولُ
ذلكَ القائلِ، وخشيتُ أن يغترَّ به جاهل، فينهمِكَ في الموبقاتِ، اتكالاً على
أنَّها تكفِّرُها الصلواتُ دونَ الندمِ والاستغفارِ والتوبةِ، واللَّهَ نسألُهُ العصمةَ
والتوفيقَ.
قلتُ: وقد وقعَ مثلُ هذا في كلامِ طائفةٍ من أهلِ الحديثِ في الوضوءِ
ونحوِه، ووقعَ مثلُه في كلام ابنِ المنذرِ في قيامِ ليلةِ القدرِ، قالَ: يُرجى لمنْ
قامَهَا أن يغفرَ لهُ جميعُ ذنوبه صغيرُها وكبيرُها، فإن كان مرادُهم أنَّ مَنْ أتى
بفرائضِ الإسلامِ وهو مُصِرًّ على الكبائرِ تُغفرُ له الكبائرُ قطْعًا، فهذا باطلٌ
قطعًا، يُعْلَمُ بالضرورةِ من الدِّينِ بطلانُهُ، وقد سبقَ قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -
"منْ أساءَ في الإسلام اخِذَ بالأولِ والآخرِ"
يعني: بعملِهِ في الجاهليةِ والإسلامِ، وهذا
أظهرُ من أن يحتاجَ إلى بيانٍ، وإن أرادَ هذا القائلُ أن من تركَ الإصرارَ على
الكبائرِ، وحافظَ على الفرائضِ من غيرِ توبةٍ ولا ندم على ما سلفَ منه.
كُفِّرَتْ ذُنوبُهُ كلُّهَا بذلكَ، واستدلَّ بظاهرِ قولِهِ: (إِن تَجْتَنِبوا كبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا) .
وقال: السيئاتُ تشملُ الكبائرَ والصغائرَ، وكما أنَّ الصغائرَ تُكفَّرُ باجتنابِ
الكبائرِ من غيرِ قصدٍ ولا نيّة، فكذلكَ الكبائرُ، وقد يستدلُّ لذلكَ بأنَّ اللَّهَ
وعدَ المؤمنينَ والمتقينَ بالمغفرةِ وبتكفيرِ السيِّئاتِ، وهذا مذكورٌ في غيرِ موضع
من القرآنِ، وقد صارَ هذا من المتقين، فإنَّه فعلَ الفرائضَ، واجتنبَ الكبائرَ،