للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا ورد قوله من أبياتٍ يصف فرسًا من جملتها:

نعم متاع الدنيا حباك به ... أروع لا جيدرٌ ولا جبس١

فلفظة "جيدر" غليظة، وأغلظ منها قول أبي الطيب المتنبي:

جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيمٌ على الحسب الأغرِّ دلائل٢

فإن لفظة "جفخ" مرة الطعم، وإذا مرَّت على السمع اقشعرَّ منها، وأبو الطيب في استعمالها كاستعمال تأبَّط شرًّا لفظة "جحيش"، فإن تأبط شرًّا كانت له مندوحة عن استعمال تلك اللفظة، كما أشرنا إليها فيما تقدَّم، وكذلك أبو الطيب في استعمال هذه اللفظة التي هي "جفخت", فإن معناها: فخرت، والجفخ: الفخر، يقال: "جفخ فلان"، إذا فخر، ولو استعمل عوضًا عن "جفخت" "فخرت" لاستقام وزن البيت, وحظي في استعماله بالأحسن.

وما أعلم كيف يذهب هذا وأمثاله على مثل هؤلاء الفحول من الشعراء؟!

وهذا الذي ذكرته وما يجري مجراه من الألفاظ هو الوحشيّ اللفظ, الغليظ الذي ليس له ما يدانيه في قبحه وكراهته، وهذه الأمثلة دليل على ما أوردناه.

والعرب إذن لا تلام على استعمال الغريب الحسن من الألفاظ, وإنما تلام على الغريب القبيح، وأما الحضريّ فإنه يلام على استعمال القسمين معًا، وهو في أحدهما أشدّ ملامة من الآخر.

على أنَّ هذا الموضع يحتاج إلى قيد آخر، وذلك شيء استخرجته أنا دون غيري، فإني


١ ديوان أبي تمام ١٦٧ وهو من قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب، ومطلعها:
هل أثر من ديارهم دعس ... حيث تلاقى الأجزاع والوعس
ورواية الديوان "حيدر" بالحاء المهملة, وهو القصير، والجيدر بمعناه، والأروع الذي يعجب الإنسان، والجبس: الجامد الثقيل الروح.
٢ ديوان المتنبي ٣/ ٢٥٨ من قصيدة يمدح بها أحمد بن عبد الله الأنطاكي، ومطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل
جفخت: تكبرت وفخرت، وفي البيت تقديم وتأخير، وتقديره: جفخت بهم شيم وفخرت، وهم لا يفخرون بها، وشيمهم دلائل على حسبهم الظاهر.

<<  <  ج: ص:  >  >>