ولم يعلم عنه في تلك المدة أنه كان يدرس شيئا مما ذكر، وكذلك لم يحصل له في تلك المدة- مدة حياته قبل البعثة - أن مارس صناعة الفصاحة والبلاغة، فلم يكن له عناية بالأشعار والخطب والرسائل العربية، لا قولا ولا رواية، ولم يكن مولعا بمحاورة الفصحاء، ومغالبة البلغاء حتى تقوى فيه ملكة الفصاحة والبلاغة، وحتى يصبح أهلا لبلوغ الدرجة القصوى فيها (مع العلم بأنه مع عدم التعلم والممارسة كان أفصح العرب، وأوتي جوامع الكلم بما وهبه الله وعلمه)، فلما أرسل بين جماهير العالم من عرب وعجم فقر في المال، وفقد للناصر والمعين، فادعى أن الله تعالى أرسله إلى الناس كافة ليبلغهم شرعه ودينه. وليبشر من اتبعه بالفلاح في الدنيا والآخرة، ولينذر من تولى وأعرض بالخزي والشقاء فيهما، وأعلن فيهم الدعوة إلى توحيد الله تعالى، وهدم كل ما ورثوه من شرك وكفر، وأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
عندما فعل ذلك وسمعت منه الجماهير هذه الدعوى العظيمة نفروا منه، وعادوه أشد المعاداة، وهجره الأهل والخلان، وكذبه الشيوخ والشبان، ثم أخذوا في مجادلته ومخاصمته وطلبوا الحجة على صدق دعواه الرسالة، فجاءهم (صلى الله عليه وسلم) بمعجزات كثيرة سنذكر بعضها فيما يأتي، غير أن المعجزة الخالدة التي استند إليها في إثبات رسالته وجعلها الأساس في ذلك، وتحداهم بها ثلاثة وعشرين عاما هي المعجزة العقلية المعنوية العظمى (القرآن الكريم) فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا ثم تحدهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه فعجزوا، ثم أعلمهم بأنه لو اجتمع البشر كلهم، وتظاهرت الجن معهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا، أن يأتوا بسورة مثله ولو كأقصر سورة منه.
قال تعالى:{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ}(١).