للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والْجَمْع بَيْن هَذا وبَيْن قَوله تَعالى: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) مُشْكِل، وأيضًا قَوله تَعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: ١٤٣]، فإذا كَانت أُمَّتُنا تَشْهَد لِسَائر النَّاس فَالأنْبِياء أَوْلَى بِأن يَشْهَدُوا لأُمَمِهم بِذلك.

والْجَوَاب عنه مِنْ وُجُوه:

الأوَّل: قَال جَمْع مِنْ الْمُفَسِّرِين: إنَّ للقِيَامَة زَلازِل وأهْوالًا بِحَيث تَزُول القُلُوب عن مَواضِعِها عند مُشَاهَدَتِها، فَالأنبياء عليهم الصلاة والسلام عند مُشَاهَدَة تِلك الأهْوَال يَنْسَون أَكْثَر الأمُور، فَهُنَالِك يَقُولُون: لا عِلْم لَنا، فإذا عَادت قلوبهم إليهم فعند ذلك يَشْهَدُون للأُمَم. وهذا الْجَوَاب وإن ذَهَب إليه جَمْع عَظِيم مِنْ الأكَابر فهو عِنْدِي ضَعيف.

ثم عَلّل ذلك بأنَّ أهْل الإيمان لا يَحْزُنُهم الفَزَع الأكْبَر، ثم قال:

فَكَيف يَكُون حَال الأنبياء والرُّسُل أقَل مِنْ ذلك؟ ومَعْلُوم أنّهم لَو خَافُوا لَكَانُوا أقلّ مَنْزِلة مِنْ هَؤلاء الذين أخْبر الله تعالى عَنهم أنّهم لا يَخَافُون ألبتة (١).

والوجه الثاني: أن المراد مِنه المبالغة في تحقيق فَضيحتهم، كَمَنْ يَقول لغيره: ما تقول في فلان؟ فيقول: أنت أعلم به مِنّي، كأنه قيل: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لِظُهُورِه، وهذا أيضًا ليس بِقَويّ، لأن السؤال إنما وقع عن كل الأمّة، وكل الأمة ما كانوا كافِرين حتى تَرُدّ الرسل بالنفيِ تَبكيتهم وفَضيحتهم.

والوجه الثالث في الجواب - وهو الأصح- وهو الذي اختاره ابن عباس: أنهم إنما قالوا لا عِلْم لنا لأنك تَعلم ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحن لا نَعلم إلا ما أظْهَرُوا فَعِلْمُك فيهم أنْفَذ مِنْ عِلْمِنا، فلهذا المعنى نَفَوا العِلْم عن أنفسهم، لأن عِلمهم عند الله كَلَا عِلْم.


(١) وهذا مُتعقّب، وسيأتي تعقّبه في "رأي الباحث".

<<  <   >  >>