للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والوَجْه الرَّابع في الْجَوَاب: أنّهم قالوا: لا عِلم لَنا إلَّا أن عِلْمَنا جَوابَهم لَنا وَقْت حَياتِنا، ولا نَعْلَم مَا كَان مِنهم بَعد وَفَاتِنا، والْجَزاء والثَّوَاب إنّمَا يَحْصُلان على الْخَاتِمَة وذلك غَير مَعْلُوم لَنا؛ فَلِهَذا الْمَعْنَى قَالوا: لا عِلْم لَنا. وقَوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) يَشهد بِصِحّة هَذَين الْجَوابَين.

الوَجْه الْخَامس - وهو الذي خَطَر بِبَالي وقت الكتابة -: أنه قد ثَبت في علم الأصول أن العِلْم غير، والظَّنّ غير، والْحَاصِل عِند كُلّ أحَدٍ مِنْ حَالِ الغَير إنّمَا هُو الظَّن لا العِلْم، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: نحن نَحْكُم بالظَّاهِر، والله يَتَولَّى السَّرَائر (١). وقال عليه الصلاة والسلام: إنكم لَتَخْتَصِمُون لَدَيّ، ولَعَلَّ بَعْضَكم ألْحَن بِحُجَّتِه، فَمَنْ حَكَمْتُ له بِغَير حَقِّه فَكَأنّمَا قَطَعْتُ له قِطْعَة مِنْ النَّار (٢). أوْ لَفْظٌ هذا مَعْنَاه. فَالأنْبِياء قَالوا: لا عِلْم لَنا ألبتة بأحْوالِهم، إنّمَا الْحَاصِل عِنْدَنَا مِنْ أحْوَالِهم هو الظَّن، والظَّن كان مُعْتَبَرًا في الدّنيا، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنيا كانت مَبْنِيّة على الظن، وأمَّا الآخِرَة فلا الْتِفَات فيها إلى الظَّن، لأنَّ الأحكام في الآخرة مَبْنِيّة على حقائق الأشياء وبَواطِن الأمُور، فَلِهَذا السَّبَب قَالوا: لا عِلْم لَنا [إلا ما عَلّمتنا] (٣)، ولم يَذكروا ألبتة مَا مَعهم مِنْ الظَّنّ، لأنَّ الظَّن لا عِبرة بِه في القِيَامَة.


(١) نقل ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (٢/ ٤٣٢) عن الحافظ جمال الدين المزي قوله: لا نعرفه.
وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (٤/ ١٩٢): هذا الحديث استنكره المزني، فيما حكاه ابن كثير عنه في أدلة التنبيه. اهـ.
وفي معناه ما رواه الإمام أحمد (ح ٣٣٠٩) من قوله صلى الله عليه وسلم للعباس يوم بدر: إن يك ما تدعي حقًا فالله يجزيك بذلك، وأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال الهيثمي (٦/ ٨٦): رواه أحمد وفيه راوٍ لم يسم، وبقية رجاله ثقات. وينظر تخريجه في تخريج المسند (٥/ ٣٣٥، ٣٣٦).
وفي معناه أيضًا ما رواه البخاري (ح ٤٠٩٤)، ومسلم (ح ١٠٦٤) من قوله عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمَر أن أُنَقِّب قلوب الناس، ولا أَشُقَّ بطونهم و"معناه: إني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". قاله النووي (المنهاج، مرجع سابق ٧/ ١٦٣).
(٢) رواه - بنحوه - البخاري (ح ٢٥٣٤)، ومسلم (ح ١٧١٣).
(٣) في المطبوع جُعِلت بين قوسين على أنها آية واحدة، وهي مقحمة، لأن هذه الزيادة من سورة البقرة في قصة الملائكة مع آدم.

<<  <   >  >>