الأحاديث بينهم اقتضابا وتذهب منها في أودية غير أوديتهم, وأنك تحدثهم فلا تحسن تقدير صوتك على مقياس أسماعهم فتعلو به عليها أو تنزل به دونها, وأنك تبتسم في موضع التقطيب وتقطب في موضع الابتسام, أصبحوا ينظرون إليك بتلك العين التي ينظرون بها إلى الأطفال الصغار والبله الأغرار، فإن ألممت بسر نظرتهم هذه إليك ألم بك من الحزن والهم ما لا طاقة لمثلك في سنك وضعف منتك باحتمال مثله, وأصبحت ترتاب بكل نظرة تتجه إليك وكل ابتسامة تتراءى لك واعتادك سوء الظن بكل جالس يجلس إليك من أصدقائك وأقربائك وذوي رحمك، بل من أبويك وإخوتك، فلا يكاد يسلم لك صديق أو يصفو لك حميم.
فإن فررت من الناس نجاة بنفسك من لؤمهم وقسوتهم فررت إلى خلوة موحشة قاتمة تتراءى لك فيها خيالات الذكرى المؤلمة كلما وازنت بين حاضرك وماضيك, وقارنت بين ما كنت ترجو لنفسك في أيامك الأولى وما انتهى إليك أمرك في أيامك الأخرى، فلا تنفعك خلوة، ولا يؤنسك اجتماع.
وأخوف ما أخاف عليك إن استمر بك هذا الشأن -ولا أسأل الله لك دوامه- وظللت تنطق ولا تسمع، وتقول ولا تفهم ما يقال، أن تصبح في يوم من أيامك لا سامعا ولا ناطقا،