وحينئذ يكفي في نفي المساواة نفي الِاسْتِوَاءُ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ هُوَ الْجُزْئِيُّ، فَإِذَا قُلْنَا لَا يَسْتَوِيَانِ لَا يُفِيدُ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ: بِأَنَّ عَدَمَ إِشْعَارِ الْأَعَمِّ بِالْأَخَصِّ إِنَّمَا هُوَ فِي طَرِيقِ الْإِثْبَاتِ لَا في طريق النفي، فإن نفي الْأَعَمَّ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَخَصِّ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَجَازَ مثله في كل نفي، فلا يعم نَفْيٌ أَبَدًا إِذْ يُقَالُ فِي لَا رَجُلَ: رَجُلٌ أَعَمُّ مِنَ الرَّجُلِ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ، فَلَا يُشْعَرُ بِهِ وَهُوَ خِلَافُ مَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ.
وَأُجِيبَ عَنِ الدَّلِيلِ الثَّانِي: بِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: لَا مُسَاوَاةَ فَإِنَّمَا يُرَادُ نَفْيُ مُسَاوَاةٍ يَصِحُّ انْتِفَاؤُهَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الْعُمُومِ، وَهُوَ من قبيل ما يخصصه العقل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء} ١ أَيْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يُخْلَقُ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَرْجِعَ الْخِلَافِ إِلَى أَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِثْبَاتِ هَلْ مَدْلُولُهَا لُغَةً الْمُشَارَكَةُ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ حَتَّى يَكُونَ اللَّفْظُ شَامِلًا أَوْ مَدْلُولُهَا الْمُسَاوَاةُ فِي بَعْضِ الْوُجُوهِ، حَتَّى يَصْدُقَ بِأَيِّ وَجْهٍ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْأَوَّلِ لَمْ يَكُنِ النَّفْيُ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْكُلِّيِّ الْمُوجَبِ جُزْئِيٌّ سَالِبٌ، وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي كَانَ لِلْعُمُومِ؛ لِأَنَّ نَقِيضَ الْجُزْئِيِّ الْمُوجَبِ كُلِّيٌّ سَالِبٌ.
وَخُلَاصَةُ هَذَا أَنَّ صِيغَةَ "لا يستوي"* الاستواء إِمَّا لِعُمُومِ سَلْبِ التَّسْوِيَةِ، أَوْ لِسَلْبِ عُمُومِ التَّسْوِيَةِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ شَيْءٍ مِنْ أفرادها، وعلى الثاني ثُبُوتُ الْبَعْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي تَرْجِيحَ الْمَذْهَبِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ حَرْفَ النَّفْيِ سَابِقٌ وَهُوَ يُفِيدُ سَلْبَ العموم لا عموم السلب، وَأَمَّا الْآيَةُ الَّتِي وَقَعَ الْمِثَالُ بِهَا فَقَدْ صُرِّحَ فِيهَا بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأُمُورِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} ٢ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، وَقَدْ رَجَّحَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ بِأَنَّ نَفْيَ الِاسْتِوَاءِ مِنْ بَابِ الْمُجْمَلِ مِنَ الْمُتَوَاطِئِ لَا مِنْ بَابِ الْعَامِّ، وَتَقَدَّمَهُ إِلَى تَرْجِيحِ الإجمال إليكا الطَّبَرِيُّ.
الْفَرْعُ الْحَادِي عَشَرَ:
إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ أَوِ الشَّرْطِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَهَلْ يَكُونُ النَّفْيُ لَهُ نَفْيًا لِمَصْدَرِهِ، وَهُوَ نَكِرَةٌ فَيَقْتَضِي الْعُمُومَ أَمْ لَا؟ حَكَى الْقَرَافِيُّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ يَعُمُّ، وَقَالَ: إِنَّ الْقَاضِيَ عَبْدَ الْوَهَّابِ فِي "الْإِفَادَةِ" نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَلَمْ يُصَرَّحْ بِمَفْعُولِهِ نَحْوَ: لَا أَكَلْتُ، وَإِنْ أَكَلْتُ، وَلَا كَانَ لَهُ دَلَالَةٌ عَلَى مَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، فَذَهَبَتِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أنه يعم.
* في "أ": الاستواء.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute