للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْوَاعِ الْأَذَى بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ تَرِدْ نُصُوصٌ أُخْرَى بِالنَّهْيِ عَنْ عُمُومِ الْأَذَى، فَلَوْ بَصَقَ رَجُلٌ فِي وَجْهِ وَالِدَيْهِ وَضَرَبَهُمَا بِالنَّعْلِ وَقَالَ: إنِّي لَمْ أَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ لَعَدَّهُ النَّاسُ فِي غَايَةِ السَّخَافَةِ وَالْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ مِنْ مُجَرَّدِ تَفْرِيقِهِ بَيْنَ التَّأْفِيفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَبَيْنَ هَذَا الْفِعْلِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ نَهْيٌ غَيْرُهُ، وَمَنْعُ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْعَقْلِ وَالْفَهْمِ وَالْفِطْرَةِ.

فَمَنْ عَرَفَ مُرَادَ الْمُتَكَلِّمِ بِدَلِيلٍ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَجَبَ اتِّبَاعُ مُرَادِهِ، وَالْأَلْفَاظُ لَمْ تُقْصَدْ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ أَدِلَّةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ، فَإِذَا ظَهَرَ مُرَادُهُ وَوَضَحَ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ عَمَلٌ بِمُقْتَضَاهُ، سَوَاءٌ كَانَ بِإِشَارَةٍ، أَوْ كِتَابَةٍ، أَوْ بِإِيمَاءَةٍ أَوْ دَلَالَةٍ عَقْلِيَّةٍ، أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ، أَوْ عَادَةٍ لَهُ مُطَّرِدَةٍ لَا يُخِلُّ بِهَا، أَوْ مِنْ مُقْتَضَى كَمَالِهِ وَكَمَالِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَنَّهُ يُمْتَنَعُ مِنْهُ إرَادَةُ مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ وَتَرْكُ إرَادَةِ مَا هُوَ مُتَيَقَّنٌ مَصْلَحَتُهُ، وَأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَى إرَادَتِهِ لِلنَّظِيرِ بِإِرَادَةِ نَظِيرِهِ وَمِثْلِهِ وَشَبَهِهِ، وَعَلَى كَرَاهَةِ الشَّيْءِ بِكَرَاهَةِ مِثْلِهِ وَنَظِيرِهِ وَمُشَبَّهِهِ، فَيَقْطَعُ الْعَارِفُ بِهِ وَبِحِكْمَتِهِ وَأَوْصَافِهِ عَلَى أَنَّهُ يُرِيدُ هَذَا وَيَكْرَهُ هَذَا، وَيُحِبُّ هَذَا وَيَبْغَضُ هَذَا.

وَأَنْتَ تَجِدُ مَنْ لَهُ اعْتِنَاءٌ شَدِيدٌ بِمَذْهَبِ رَجُلٍ وَأَقْوَالِهِ كَيْفَ يَفْهَمُ مُرَادَهُ مِنْ تَصَرُّفِهِ وَمَذَاهِبِهِ؟ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ يُفْتِي بِكَذَا وَيَقُولُهُ، وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ بِكَذَا وَلَا يَذْهَبُ إلَيْهِ، لِمَا لَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ صَرِيحًا، وَجَمِيعُ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ مَعَ أَئِمَّتِهِمْ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ.

[الْعِبْرَةُ بِإِرَادَةِ التَّكَلُّمِ لَا بِلَفْظِهِ]

وَهَذَا أَمْرٌ يَعُمُّ أَهْلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ فَاللَّفْظُ الْخَاصُّ قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى مَعْنَى الْعُمُومِ بِالْإِرَادَةِ وَالْعَامُّ قَدْ يَنْتَقِلُ إلَى الْخُصُوصِ بِالْإِرَادَةِ، فَإِذَا دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى، أَوْ قِيلَ لَهُ: " نَمْ " فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَنَامُ، أَوْ: " اشْرَبْ هَذَا الْمَاءَ " فَقَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَشْرَبُ، فَهَذِهِ كُلُّهَا أَلْفَاظٌ عَامَّةٌ نُقِلَتْ إلَى مَعْنَى الْخُصُوصِ بِإِرَادَةِ الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي يَقْطَعُ السَّامِعُ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ النَّفْيَ الْعَامَّ إلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَالْأَلْفَاظُ لَيْسَتْ تَعَبُّدِيَّةً، وَالْعَارِفُ يَقُولُ: مَاذَا أَرَادَ؟ وَاللَّفْظِيُّ يَقُولُ: مَاذَا قَالَ؟ كَمَا كَانَ الَّذِينَ لَا يَفْقَهُونَ إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُونَ: {مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: ١٦] ، وَقَدْ أَنْكَرَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَمْثَالِهِمْ بِقَوْلِهِ: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: ٧٨] ، فَذَمَّ مَنْ لَمْ يَفْقَهْ كَلَامَهُ، وَالْفِقْهُ أَخَصُّ مِنْ الْفَهْمِ، وَهُوَ فَهْمُ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْ كَلَامِهِ، وَهَذَا قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُجَرَّدِ فَهْمِ وَضْعِ اللَّفْظِ فِي اللُّغَةِ، وَبِحَسَبِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ النَّاسِ فِي هَذَا تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهُمْ فِي الْفِقْهِ وَالْعِلْمِ.

وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَسْتَدِلُّونَ عَلَى إذْنِ الرَّبِّ - تَعَالَى - وَإِبَاحَتِهِ بِإِقْرَارِهِ وَعَدَمِ إنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>