للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مفارقَةُ الجَسَدِ للرُّوحِ لا تَقَعُ إلَّا بعدَ ألمٍ عظيم تذُوقُه الرُّوحُ والجَسَدُ جميعًا، فإنَّ الرُّوح قد تعلَّقَتْ بهذا الجَسَدِ وأَلِفَتْهُ، واشتدَّتْ أُلفتُها له وامتزاجُها به ودُخُولُها فيه (١)، حتَّى صارا كالشيءِ الواحِدِ، فلا يَتَفَارقانِ إلَّا بجُهدٍ شديدٍ وألمٍ عظيمٍ، ولم يذق (٢) ابنُ آدَمَ في حياتِه ألمًا مثلَه، وإلى ذلك الإِشارَةُ بقولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (٣). قَالَ الرَّبِيْعُ بن خُثَيْم (٤): أكثِرُوا مِن (٥) ذِكرِ هذا الموتِ؛ فإنَّكُم لم تَذُوقوا قبلَه مثلَه.

ويتزايدُ الألمُ بمعرفةِ المحتضرِ بأنَّ (٦) جسَدَهُ إذا فَارقَتْه الرُّوحُ صارَ جِيفةً مستقذَرَةً يأكُلُه الهوامُّ (٧)، ويبلِيه التُّرابُ حتَّى يعودَ (٨) ترابًا، وأنَّ الرُّوحَ المفارِقةَ له لا تَدرِي أينَ مُسْتَقرُّها، هَلْ هو في الجنَّةِ أو النَّارِ؟ فإن كان عاصيًا مُصِرًّا على المعصيةِ إلى الموتِ، فربَّما غَلَبَ على ظَنِّه أن روحَهُ تَصِيرُ إلى النَّارِ، فتتضَاعَفُ بذلك حَسْرَتُه وألمُه، ورُبَّما كُشِفَ له مَعَ ذلك عَنْ مَقْعَدِهِ مِنَ النَّارِ فيرَاهُ (٩) أو يُبَشَّرُ بذلك، فيجتمعُ له مَعَ كَرْب الموتِ وألمِه العظيمِ مَعْرفتُه بسوءِ مَصِيرِه، وهذا هُوَ المرادُ بقولِ اللهِ تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} (١٠) على ما فسَّره (١١) كثيرٌ مِن السَّلَفِ (١٢)، فيجتمعُ عليه سَكْرة الموتِ مَعَ حَسْرةِ الفَوْتِ، لا تسألْ عن سُوءِ حالِهِ.

وقد سمَّى اللهُ تعالى ذلك سَكْرَةً؛ لأنَّ ألَم المَوْتِ مَعَ ما يَنْضمُّ إليه يُسْكِرُ صاحبَهُ فيَغيبُ عقلُه غالبًا، قال الله تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} (١٣).

أَلا لِلْمَوْتِ كأسٌ أيُّ كَأْسِ … وأَنْتَ لِكأسِهِ لابُدَّ حاسِي

إلى كَمْ والمَماتُ إلى قَريبٍ … تُذَكَّرُ بالمَمَاتِ وأنتَ ناسِي


(١) في آ: "واشتد ألفتها له وامتزاجها ودخولها فيه".
(٢) في آ: "لم يألم".
(٣) سورة آل عمران، الآية ١٨٥، والأنبياء ٣٥، والعنكبوت ٥٧.
(٤) في آ: "الربيع بن خيثم" وهو تحريف. وانظر "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٢٥٨.
(٥) لفظ: "من" لم يرد في (ب، ش، ع، ط).
(٦) في آ، ش، ط: "فإن"، وأثبت ما جاء في (ب، ع).
(٧) الهَوَامُّ: مثل دابَّةٍ ودوابَّ، وقد تطلق الهوامُّ على ما لا يَقْتلُ كالحشرات.
(٨) في آ: "يَصيرَ".
(٩) في ب، ش، ط: "فرآه".
(١٠) سورة القيامة، الآية ٢٩.
(١١) في ب، ش، ط "ما فسر به".
(١٢) انظر: "تفسير الطبري" ٢٩/ ١٢١ - ١٢٢ و "تفسير ابن كثير" ٤/ ٤٥١.
(١٣) سورة ق، الآية ١٩.

<<  <   >  >>