للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قُلتُ: وإلى ذلك أشَار عُمَرُ بن الخَطَّاب رَضِيَ اللّهُ عنهُ بقَوْله، وذكر امرأَ القَيْس فقال: خَسَفَ لهم عَيْنَ الشِّعْر، وافْتَقَرَ عن مَعَانٍ عُوْر أصَحَّ بَصَرٍ.

وقد تكلَّم أبو سُليْمان الخَطَّابيّ على مَعْنى قَوْل عُمَر رَضِيَ اللّهُ عنهُ، بما أخْبَرَنا به المُؤيَّد بن مُحَمَّد في كتابهِ، عن أبي عَبْدِ اللّه الفَرَاوِيّ، قال: أخْبَرَنا أبو الحُسَين عَبْدُ الغَافِر بن مُحَمَّد الفَارِسِيّ، قال: قال أبو سُليْمان الخَطَّابيّ في حَدِيث عُمَر: أنَّهُ ذكر امْرأَ القَيْس فقال: خَسَفَ لهم عَيْنَ الشِّعْر وافْتَقَر عن مَعَانٍ عُوْر أصَحّ بَصَرٍ، فَسَّرَهُ ابن قُتَيْبَة في كتابِه فقال: خَسَفَ: من الخَسِيْف وهو البئر تُحْفَر (a) في حِجَارة فيُسْتَخرج منها ماءٌ كَثِيْرٌ. وافْتَقَر: فَتَحَ، وهو من الفَقِيْر، والفَقِيرُ: فَم القَنَاة، وقَوْله: عن مَعانٍ عُوْر، يُريدُ أَنَّ امْرأ القَيْس من اليَمَن وليسَتْ لهم فَصَاحَةٌ.

قال أبو سُليْمان: هذا لا وَجْهَ له ولا مَوضِع لاسْتِعْماله فيمن لا فَصَاحَةَ له، إنَّما أُرِيْدَ بالعَوَر هَاهُنا غمُوض المَعَاني ودِقَّتَها، من قَوْلك عَوَّرت الرَّكيَّةَ، إذا دَفَنْتَتها (b)، ورَكيَّة عَوْرَاءُ، قال الشَّاعِرُ (١): [من الرجز]

ومَنْهَل أعْوَر إحْدَى العَيْنَين … بَصِيْرة الأُخرى أصَمّ الأُذنَيْن

جَعَل العَيْن الّتي تَنْبع بالماء بَصِيْرةً، وجَعَل المُنْدَفنَة عَوْرَاءَ؛ فالمَعَاني العُوْرُ على هذا هي البَاطِنَةُ الخَفِيَّة، كقَوْلك: هذا كَلَام مُعَمَّىً أي غَامِضٌ غيرِ وَاضِح، أرادَ عُمَرُ أنَّهُ قد غاصَ على مَعَانٍ خَفِيَّةٍ على النَّاسِ، فكَشَفَها لهم، وضَرَبَ العَوَرَ مثَلًا لغمُوضِها وخَفَائها، وصِحَّة البَصَر مثَلًا في ظُهُورها وبَيَانها، وذلك كما أجْمَعَتْ عليه الرُّوَاةُ من سَبْقه إلى مَعَانٍ كَثِيْرة لم يَحْتَذ فيها على مثال مُتَقَدِّم؛ كابْتِدائهِ في القَصِيدَة بالتَّشْبِيْب والبُكَاءَ في الأطْلَال، والتَّشْبِيْهَاتِ المُصِيْبَة، والمَعَاني المُقْتَضَبة


(a) ب: تحفره.
(b) ب: دققتها.

<<  <  ج: ص:  >  >>