إن الصورة النمطية للمسنين أنهم يفقدون معظم يقظتهم الذهنية وقدرتهم العقلية مع التقدم في السن, فمن الشائع مثلًا أن المسنَّ لا يستطيع أن يلتقط الأفكار بسرعة أو يتذكرها بدقة, كما يتوقع منه ألّا يكون قادرًا على "إنتاج الأفكار" أو المبادأة بها، كما لا يُتَوقَّعُ منه أن يكون مبدعًا, وللتحقق من هذه الصورة النمطية قام علماء النفس في السنوات الأخيرة بسلسلةٍ كبيرةٍ من البحوث حول الذكاء والنشاط المعرفي في مرحلة المسنين, وعلى الرغم من أن نتائج البحوث في هذا المجال لا تزال خلافية، إلّا أنها هيَّأَتْ لنا الفرصة للوصول إلى استنتاجٍ واضحٍ للغاية, خلاصته أن التدهور العقلي السريع ليس حتميًّا بالضرورة لدى الشخص المسن السوي.
والمكون الذي حظي بأكبر قدر من الاهتمام من النشاط العقليّ لدى المسنين هو الأداء في اختبارات الذكاء, وكما أوضحنا في الباب السابق يوجد خلافٌ حادٌّ حول التدهور الملاحظ في الذكاء خلال منتصف العمر, وكذلك في الشيخوخة؛ فالدراسات المستعرضة تسجّل تناقصًا في الأداء الاختباري, يبدأ مبكرًا منذ العقد الثالث من حياة الإنسان، بينما تدل الدراسات الطولية على استقرار نسبي في معظم الوظائف العقلية حتى العقد الخامس من العمر، بعده يلاحظ تدهور بطيء ولكنه منتظم, وبالإضافة إلى ذلك فإنه حتى حين يُلَاحَظُ النقص في أداء الاختبارات العقلية، فإن ذلك لا يحدث عادةً إلّا في المجالات التي تقيس القدرات الإدراكية والذاكرة والاستدلال الاستقرائي "أو ما يُسَمَّى الذكاء السائل", وكذلك المجالات التي تؤكد المهارات الحركية وسرعة الاستجابة, أما المعرفة الاجتماعية والقدرة اللغوية والاستدلال الحسابي "وكلها من نوع الذكاء المتبلور", فإنها لا تتأثر إلّا قليلًا بعملية التقدم في السن في ذاتها، ولا يظهر التدهور فيها إلّا في أواخر السبيعنات من العمر "١٩٤٤ ,Schaie".
وإذا كان الأداء العقلي يتناقص في الشيخوخة -حتى ولو كان في مجالات معينة -فإنه يبدو صحيحًا أن نقول: إن هذا النقص يظهر بنفس الدرجة عند جميع الناس, ومن الفروض الطريفة أن "التقدم في السن لا يؤثر كثيرًا في الأشخاص الأكثر قدرة منذ البداية، أي: أن المفحوصين ذوي القدرة العالية منذ شبابهم يظهرون تدهورًا أقل في الشيخوخة إذا قورنوا بالأشخاص الأقل قدرة, وحيث إن القدرات العالية تميل إلى الارتباط بالمستويات العالية من التعليم, فقد اقترح أيضًا أن الأشخاص الأعلى في المستوى التعليمي يتعرضون لتدهور أقل في الشيخوخة.