للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأخذنا في اختراق غابات أشجار تخفى الرفيق عن رفيقه، وتشغله عن افتقار طريقه، حولها معاثر أحجار كأنها قبور تغيرت، أو جبال تفطرت، بينها مخائض لإبل مغائص كأنها بحار فجرت [١] ، ما خرجنا منها إلا إلى جبال قد تمنطقت بالجداول، وتيممت بالثلوج، وعميت مسالكها فلا أحد إلا وهو قائل، فهو إلى خروج من سبيل أو إلى سبيل من خروج، تضيق مناهجها بمشي الواحد وتلتف شجراتها التفات (المخطوط ص ١٤١) الأكمام بالساعدة ذات أوعار زلقة، وصدور شرقة، وأودية بالمزدحمين مختنقة.

حتى وصلنا إلى الحدث الحمراء المسمى الآن بكينوك ومعناها المحترقة، كان قسطنطين والد صاحب سيس [٢] قد أخذها من أصحاب الروم، وأحرقها وتملكها، وعم بها الضرر لبلاد الإسلام، سيّر السلطان إليها عسكرا من حلب، فافتتحها بالسيف، وقتل كل من بها من الرجال وسبى الحريم والذرية، وخربت من ذلك الحين، وما بقى منها من يكاد يبين.

وشاهدنا منها ما بناه سيف الدولة بن حمدان [٣] ، فالقنا يقرع بالقنا، وموج المنايا تتلاطم، وقيل لسلطاننا هناك على قدر أهل العزم تأتي العزائم [٤] ، غضب الدهر والملوك عليها فبناها في وجنة الدهر خالا.

فبتنا بها وجيادنا إذا زلفت مشت كالأراقم على البطون، وإن تكاسلت جر بعضها بعضا بالصهيل والحديث شجون، وخضنا في أثناء ذلك مخائض سواقع،


[١] إشارة إلى قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
[الانفطار، الآية: ٣] .
[٢] سبس: هي سيواس من بلاد ملك العراق، حسنة العمارة واسعة الشوارع على حدود الروم (رحلة ابن بطوطة ١٩٧) .
[٣] سيف الدولة بن حمدان، هو أبو الحسن علي المعروف بسيف الدولة الحمداني، أشهر أمراء الدولة الحمدانية من قبيلة تغلب مات سنة ٣٥٦ هـ.
[٤] تضمين لقول أبي تمام:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم

<<  <  ج: ص:  >  >>