للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمسى كأنى من معدتى ... لبست الثياب على زكره (١)

إذا ما رأيت امرءا مطلقا ... له الأكل تخنقنى العبره (٢)

كأنى فى منزلى مخصبا ... ببلقعة جدبة قفره

وهو وصف دقيق لأثر الحمى فى الجسم وأوقاتها التى تفد فيها وآلامه مع الجوع والأكل وما يحس به فى جوفه من مرارة وحدة. وقد صور شعوره بالحرمان وغبطته الأصحاء على ما يطعمون، وبيته حافل بألوان الغذاء، ولكنه يشعر كأنما هو فى فلاة مجدبة.

وقد رأينا أبا تمام يخلط بعض مقدمات مدائحه بالشكوى من الزمن ونوازله، وقد نظم هو نفسه قصائد خصها ببث شكواه من الدهر وهمومه (٣)، وشركه فى ذلك بعض الشعراء، مما جعل هذا الباب يتسع منذ هذا العصر ويصبح أحد الموضوعات الأساسية فى دواوين الشعراء، وخاصة دواوين العصر التالى، إذ ساءت أحوال المجتمع وانعكست أصداء ذلك على نفسيات الشعراء وبالتالى على أشعارهم.

ومرّ بنا اتساع الشعراء بمراثيهم حتى شملوا بها الطير والحيوان والبساتين والمدن، وكان منهم من يبكى فى مقدمات مدائحه أحيانا الشباب فى بيت أو أبيات قليلة.

وسرعان ما رأينا القصائد تستقل بهذا الموضوع، ومن أروعها قصيدة محمد بن حازم، وفيها يقول (٤):

سقيا ورعيا لأيام الشباب وإن ... لم يبق منه له رسم ولا طلل

ليت المنايا أصابتنى بأسهمها ... فكنّ يبكين عهدى قبل أكتهل

عهد الشباب لقد أبقيت لى حزنا ... ما جدّ ذكرك إلا جدّ لى ثكل (٥)

ومما استحدثوه من المراثى محللين لمشاعرهم تحليلا دقيقا بكاؤهم حين يخبو نور البصر، وممن أكثروا من تصوير هذه المشاعر أبو يعقوب الخريمى، وكان قد أصبح ضريرا، حين طعن فى السن، فتحول يصور أحاسيسه، متفجعا على عينيه


(١) الزكرة: زق الخل.
(٢) البلقعة: الفلاة.
(٣) الديوان (طبعة بيروت) ص ٣٧٥، ٣٨٠.
(٤) أغانى (طبع دار الكتب) ١٤/ ٩٤.
(٥) الثكل: الحزن على فقد الولد.

<<  <  ج: ص:  >  >>