للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أشد الاضطراب تارة يعلن دهريته وأنه لا يؤمن يبعث ولا نشور (١) وتارة يعلن أنه مؤمن عاص، وأنه على الرغم من جهره بعصيانه وفسقه يعتمد على عفو الله ومغفرته على نحو ما مرّ بنا فى الفصل السابق وحواره للنظام فى فكرة العفو التى قال بها المرجئة (٢).

ولا بد أن نلاحظ مع ذلك كله عنصرا مهمّا فى مزاجه هو عنصر التندير والميل إلى الهزل والعبث، ولعل ذلك هو الذى جرّه إلى صياح كثير فى وجه الدين الحنيف، وكان إذا تلوّمه بعض معاصريه قال: «والله ما أدين غير الإسلام ولكن ربما نزا بى المجون حتى أتناول العظائم» (٣) وهو بذلك يعترف أن جمهور هذا الصياح إنما كان ينظمه فى أثناء معاقرته للخمر هزلا وتعابثا ومجانة، ومن أجل ذلك ترددت نبراته فى خمرياته، إذ نراه فى ثناياها يهاجم الدين أو يهاجم العرب ووقوف شعرائهم على الأطلال، حتى إذا صحا وعادت إليه يقظته أوقف ثورته على الدين والعرب جميعا ومضى يقدم لمدائحه بوصف الأطلال وبكاء الديار ونعت رحلته فى الصحراء على ناقته أو بعيره.

وأبو نواس-على الرغم من مجونياته-يعدّ من أعاجيب عصره فى الشعر، إذ كان يحظى بملكات شعرية بديعة، وهى ملكات صقلها بالدرس الطويل للشعر القديم واللغة العربية الأصيلة، حتى قال الجاحظ: «ما رأيت أحدا أعلم باللغة من أبى نواس» (٤) وأضاف إلى هذا العلم علما دقيقا بقوالب الشعر الجاهلى والإسلامى وما صارت إليه عند بشار وأضرابه من أوائل العباسيين، ومن خلال هذه القوالب جميعها أخذت شخصيته تنمو فى اتجاهين: اتجاه يحافظ فيه على التقاليد الموضوعة دون أن يشتط فى التجديد، واتجاه بجدد فيه تجديدا واسعا، يجدد فى معانيه وألفاظه.

ويمكن أن نسلك فى الاتجاه الأول مدائحه وأراجيزه ومراثيه، بينما نسلك فى الاتجاه الثانى أهاجيه وغزلياته وخمرياته وكل ما يتصل بعبثه ولهوه. أما المديح


(١) أبو هفان ص ٣٧.
(٢) انظر الديوان ص ٢٣٥.
(٣) أبو هفان ص ٣٨.
(٤) تاريخ بغداد ٧/ ٤٣٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>