للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فررت من الفقر الذى هو مدركى ... إلى بخل محظور النّوال منوع

فأعقبنى الحرمان غبّ مطامعى ... كذلك من تلقاه غير قنوع

وغير بديع منع ذى البخل ماله ... كما بذل أهل الفضل غير بديع

إذا أنت كشّفت الرجال وجدتهم ... لأغراضهم من حافظ ومذيع»

ومن يقرن هذه الأبيات الأربعة إلى ما قبلها من النثر يجده أشد لذعا، وأكثر مرونة على أداء الهجاء الذى كان يريده أبو العتاهية، ومرّ بنا أن الشعر كان يسيل على لسانه سيلانا لم يعرف لشاعر فى عصره وأنه لم يكن يجد فيه مشقة ولا جهدا، ومع ذلك فهو لا ينهض عنده بالمعانى العاطفية التى يستطيع النثر أداءها فى يسر وسهولة، مما يدل دلالة واضحة، على أنه رقى فى هذا العصر رقيا واسعا، حتى فى المجال العاطفى الخالص الذى طالما مرنت اللغة على أدائه شعرا، وهو رقى تتزاوج فيه اللذة العقلية بما استنبط الكتّاب من دقائق المعانى، واللذة الشعورية بما استنبطوا من دقائق الأحاسيس والصور وما بثوا فى ألفاظهم من حسن الاختيار للصيغ ومن جمال التقابل بين العبارات والجمل، حتى ليحاول بعض الكتّاب أن يسجع فى كلامه، حتى يصوغه صياغة موسيقية تامة.

ومما أكثر الكتاب من الكتابة فيه الدعوة إلى الزيارة لقضاء بعض الوقت فى اللهو أو فى الشراب أو فى سماع المغنين والقيان أو فى المسامرة المستحبة، ومما يصور ذلك من بعض الوجوه دعوة الحسن بن سهل لبعض أصدقائه كى يصطبح (١) معه فى يوم دجن غامت فيه السماء ولم تمطر (٢):

«أما ترى تكافؤ الطمع واليأس فى يومنا هذا بقرب المطر وبعده كأنه قول كثيّر:

وإنى وتهيامى بعزّة بعد ما ... تخلّيت مما بيننا وتخلّت

لكالمرتجى ظلّ الغمامة كلما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت (٣)


(١) يصطبح: من الصبوح وهو الشرب فى الصباح.
(٢) زهر الآداب ٢/ ١٤٦.
(٣) المقيل: النوم وقت القيلولة بعد ارتفاغ الضحى.

<<  <  ج: ص:  >  >>