أن تفرض المثال العربىّ القديم، فهو النموذج الذى يحسن أن يحاكى، وكل ما سواه غثّ سقيم، وأخذت تتجه إلى ملاحظات نحوية ولغوية مدرسية على نحو ما يتضح فى كتاب الموشح للمرزبانى. وأما البيئة الثانية بيئة المتفلسفة والمترجمين فكانت مجددة مسرفة فى التجديد، إذ رأت من الواجب أن تتخذ الفلسفة اليونانية ومعايير اليونان البلاغية أصولا فى تقويم البلاغة العربية، مما جعل البيئة اللغوية تعلن النكير عليها وكان يقف معها أصحاب البلاغة العربية الخالصة وكانوا أكثر نفرا وأنصارا لما قلناه فى غير هذا الموضع من أنه سادت فى العصر نزعة محافظة غلبت فيه على كل شئ وكان طبيعيا أن تغلب على الذوق الأدبى العام. وكان المتكلمون-وفى مقدمتهم المعتزلة- يقفون موقفا معتدلا بين الطرفين المتعارضين، إذ يقرءون ما لدى الأجانب من مقاييس بلاغية ويقرنونه إلى أنظار العرب فى البلاغة، بل إنهم يخضعونه للذوق العربى الأصيل ومقاييسه على نحو ما يتضح عند الجاحظ فى كتابه البيان والتبيين، وبذلك التحموا بالبيئة اللغوية المحافظة. وكان حريا بالمتفلسفين ورفقائهم من المترجمين أن يثوبوا إلى رشدهم وينضموا إلى المتكلمين فى موقفهم السديد، ولكن المسألة لم تكن مسألة عقلية أو منطقية يحتكم فيها إلى المنطق والعقل، بل كانت مسألة شعوبية، فهى التى أمدّتهم فى هذا الموقف بوقود جزل من الخصام والجدال والحجاج، وكانوا لا يزالون يدّعون أن كل ما شغف به الشعراء لهذا العصر من محسنات بيانية وبديعية إنما مرده إلى البلاغة اليونانية، ولذلك تصدى لهم ابن المعتز فى كتابه «البديع» يثبت أن فنونه التى يلهجون بها فنون عربية خالصة، إذ تتعمق فى القدم حتى العصر الجاهلى، وكل ما لا محدثين من أمثال بشار وأبى تمام إنما هو الإكثار منها، وهو إكثار جعلهم-كما يقول-يحسنون فيها تارة، وتارة يسيئون إساءة شديدة. ومضى فى الكتاب يدرس فنونه الأساسية، وهى عنده خمسة، الاستعارة والتجنيس والطباق ورد الأعجاز على ما تقدمها والمذهب الكلامى، وإنما خص هذه الفنون بالدراسة لأنها كانت موضع الأخذ والرد بين أصحاب الفلسفة وأصحاب البلاغة العربية الخالصة. على أنه لم يلبث أن ضم إليها ثلاثة عشر فنا بسطها بسطا، وهى الالتفات والاعتراض والرجوع والخروج من معنى إلى معنى وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتجاهل العارف والهزل يراد به الجد وحسن التضمين والتعريض