للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخاصة فى أول أمرهم، كما يحدثنا أبو الشبل أحد الشعراء لعصر المتوكل إذ يقول:

«لما عرض لى الشعر أتيت جارا لى نحويا هو المازنى وأنا يومئذ حديث السنّ، فقلت له إن رجلا لم يكن من أهل الشعر ولا من أهل الرواية قد جاش صدره بشئ من الشعر، فكره أن يظهره حتى تسمعه، قال: هاته، وكنت قد قلت شعرا ليس بجيد، إنما هو قول مبتدئ، فأنشدته إياه فلما سمعه نهرنى عليه وذمّه (١)»، ومنذ بشار بن برد فى العصر العباسى الأول نجد اللغويين يتعقبون الشعراء فى أساليبهم، فكلما بدا من أحدهم انحراف عن جادّة الفصحى أعلنوا النكير عليه، حتى لو كان فى انحرافه الظاهر إنما يقيس على أمثلة الشعراء القدماء وأبنيتهم أو على بعض أبنية العرب المسموعة، ومما يصوّر ذلك عند بشار أنه رأى العرب يصوغون من الفعل فعلى للدلالة على السرعة فيقولون حجلى للدلالة على سرعة السير، فقاس على هذه الصيغة وجلى من الوجل قائلا:

والآن أقصر عن سميّة باطلى ... وأشار بالوجلى علىّ مشير

فأخذ كثير من اللغويين يحمل عليه مخطئا له (٢)، وبشار محق، لأن من حقه القياس، وإذا كان من حقنا أن نقيس فى شئون الدين، كما قرّر ذلك الفقهاء المعاصرون له من أمثال أبى حنيفة فأولى أن يقيس الشعراء فى أبنية اللغة واشتقاقاتها الصرفية، وارتضت كثرة اللغويين منهم أن يخضعوا أحيانا لضرورات الأوزان وأنغامها التى يصوغون عليها أشعارهم، وسمّوا ذلك ضرورات شعرية، غير أن بعض المحافظين المسرفين فى محافظتهم كانوا يعدّون الضرورات عيوبا، وكانوا لا يزالون يحصونها على الشعراء كما يحصون عليهم بعض أقيستهم مما لم يسمع عن العرب، وظل ذلك دأبهم فى هذا العصر كما كان دأبهم فى العصر العباسى الأول حين كانوا يراجعون بشارا وأضرابه. واحتفظ كتاب الموشح للمرزبانى بطائفة كبيرة من مراجعاتهم لمعاصريهم، من ذلك قول على بن الجهم:

ونحن أناس أهل سمع وطاعة ... يصحّ لكم إسرارها وعلانها


(١) الأغانى (طبع دار الكتب المصرية) ١٤/ ١٩٦.
(٢) أغانى ٣/ ٢٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>