الوجدانية وحاجات المغنين والمغنيات من المقطوعات والأشعار التى كانت توقّع على الآلات والمعارف الموسيقية، ولذلك تطلبها دائما دور القيان والطرب، وكان الشعراء يختلفون إلى هذه الدور لسماع الغناء فى أشعارهم ولمغازلة الجوارى والإماء.
وكان منهن من يتقنّ نظم الشعر، ومنهن من كن يطارحن الشعراء فى أغانى الحب وأناشيده. ولعبن دورا واسعا فى دفع المجتمع العباس نحو الصبابة والعشق، وكان منهن من ينحرفن عن الطريق السوىّ، كما كان من الشعراء والشباب من حولهن شياطين لا يعرفون دينا ولا خلقا ولا عرفا. وكان ذلك سببا فى أن يكثر الغزل الإباحى، الذى لا يحتشم فيه الشاعر، بل الذى يعبر فيه أحيانا عن جوعه الجسدى وغرائزه الحيوانية. ومن الحق أن ذلك كان امتدادا لموجة الغزل المكشوف الذى شاع فى العصر العباسى الأول. وكأنما ظلت لتلك الموجة حدّتها، وكانت دور القيان آنفا من أسباب هذه الحدة، إذ كان بعض جواريها يتحولن أدوات للإغراء والريبة والمجون، وساعدهن على ذلك أنهن كن يبعن ويشرين ولم يكن يشعرن
من الكرامة. وكن يعشن بين الخلعاء والمجّان وبين كثيرين ممن لا يعرفون دينا ولا صيانة مروءة ولا يفكرون فى عقاب ولا ثواب، إنما يفكرون فى المتاع المادى وغرائزهم النوعية ومآربهم الرخيصة، وطبيعى لذلك أن يشيع الغزل الإباحى المكشوف الذى لا يعرف للمرأة كرامة ولا للرجل مروءة، إنما يعرف الهوان والابتذال البغيض.
وعلى نحو ما ظل الغزل الماجن الخليع شائعا فى هذا العصر ظل كذلك الغزل الشاذ بالغلمان الذى يزرى بكرامة الرجال. وأكبر انظن أن كثيرا من هذا الغزل وسالفه لم يكن يصور حقائق واقعة. إنما كان يصور حقائق خيالية من بعض الوجوه.
إذ كان يراد به إلى التندير والفكاهة فى مجالس هؤلاء المجان الخليعين. فهم ينظمونه ويتداولونه للضحك والدعابة. وعادة يصحبه الشاعر فى إنشاده بحركات ليزيد من ضحك السامعين. ونظن ظنّا أنه فات مؤرخى الأدب العباسى أن يلاحظوا هذه الظاهرة، وكأنه يشبه من بعض الوجوه ما قد يجرى على بعض الألسنة فى عصرنا من نكت جنسية. وليس معنى ذلك أننا نريد أن ننكر إنكارا باتّا الغزل المكشوف وأخاه الشاذ فى العصر العباسى الأول والثانى. إنما نريد أن نلفت إلى أن كثيرا منه صنع للتندير والفكاهة. وأنه غاب ذلك عمن أرخوا للأعب العباسى.
وتاريخهم لذلك فى حاجة إلى غير قليل من التصحيح. ولا بد أن نلاحظ من جهة