للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أن يقتصّ من ابن الجهم على هذا النحو البشع، لوصفه السالف له هو وبيته فى أشعاره بأنهم روافض أو شيعة غالية، وكأنما يريد أن يسجل عليهم الخيانة للمتوكل ودولته. وظل فى سجن طاهر بالشاذياخ إلى أن كتب إليه المتوكل بإطلاقه فأطلقه، ومثل ابن الجهم بين يديه، يقول:

أطاهر إنى عن خراسان راحل ... ومستخبر عنها فما أنا قائل

فقال له طاهر: لا تقل إلا خيرا فإنى لا أفعل بك إلا ما تحبّ، ووصله وحمله وكساه (١)، وأخذ يبتغى إلى مودته كل الوسائل. ويبقى ابن الجهم فى جواره مدة يسمر فيها عنده ويلزمه فى غدوه ورواحه إلى الصيد (٢). وكان طبيعيّا أن تترك هذه المحنة التى طالت سنواتها والتى شقى بها فى بغداد وخراسان شقاء شديدا ظلاّ كئيبا على نفسه حتى لنراه عقب ردّ حريته إليه يطيل المكث فى القبور، ويسأله رجل ما يجلسك بين المقابر، فيجيبه (٣):

يشتاق كلّ غريب عند غربته ... ويذكر الأهل والجيران والوطنا

وليس لى وطن أمسيت أذكره ... إلا المقابر إذ صارت لهم وطنا

وعاد ابن الجهم إلى العراق، ولكنه لم يولّ وجهه نحو سامرّاء؛ فقد ازورّ عنه المتوكل وأغلقت أبواب قصوره من دونه، إنما ولّى وجهه نحو بغداد، ونراه حينئذ يأسى لانصراف الناس عنه، فقد تغير عليه الخليفة فتغير عليه الناس جميعا، ولم يعد يجد من بينهم الصديق الوفىّ ولا الأخ المخلص، وحزن لذلك حزنا شديدا، وأداه حزنه إلى أن يغرق أساه فى كئوس اللهو علّها تنسيه كارثته، ولزم جماعة ما جنة من فتيان بغداد كانوا يختلفون إلى منزل مقيّن (نخّاس) بالكرخ يسمى المفضّل، كان منزله مكتظّا بالجوارى العابثات اللائى يتفنّنّ فى جذب الشعراء والشباب إليهن.

ومرت بنا فى الفصل الثانى أبيات لابن الجهم من قصيدة يصف فيها هؤلاء الجوارى وكيف كن يعبثن بقلوب الفتيان ويسعرن أفئدتهم نارا (٤). وينعى إليه المتوكل لسنة ٢٤٧ للهجرة فيرثيه رثاء حارّا. وما توافى سنة ٢٤٩ حتى يتناقل العالم


(١) أغانى ١٠/ ٢٠٩ وما بعدها.
(٢) أغانى ١٠/ ٢٢٧:
(٣) أغانى ١٠/ ٢٢٤.
(٤) الديوان ص ٥٢:

<<  <  ج: ص:  >  >>