للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانية» (١). وفى هذا الخبر ما يدل على مدى الترف وما دخله من تعقيد فى الوسائل، فاللون من الطعام لا يؤكل بملعقة واحدة وإنما يؤكل بملاعق كثيرة. وأبعد من هذا الخبر دلالة على الترف الذى غرق فيه بعض الناس وكثرة ما كانوا ينفقون فيه ما يروى عن المهلبى أيضا من أنه «ابتيع له فى ثلاثة أيام ورد بألف دينار فرشت به مجالسه وطرح منه كمية كبيرة فى بركة عظيمة كانت فى داره، ولها فوّارات عجيبة يطرح الورد فى مائها وينفضه» (٢) وإذا كان يشترى من الورد وحده فى ثلاثة أيام بألف دينار كى يزين به مجلسه وبركة قصره، فماذا اشترى لهذا القصر من السجاجيد والبسط والطنافس والستور وأنواع الوسائد والديباج والتحف. لا بد أن اشترى من ذلك كله بمئات الألوف. ولم يكن هذا شأنه وحده، بل كان أيضا شأن الوزراء جميعا وكبار الإقطاعيين والتجار. واشتهر بمجالس أنسه التى كان يعقدها بقصره ليلتين فى كل أسبوع، ويقول ابن خلكان: «كان يجتمع فيها عنده ندماؤه من الفقهاء والقضاة على اطراح الحشمة والتبسّط فى القصف والخلاعة، وهم القاضى أبو بكر ابن قريعة وابن معروف والقاضى التنوخى وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبى. فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذّ سماع الغناء وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار وتقلبوا فى أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع فى يد كل واحد منهم طاس ذهب فيه ألف مثقال، مملوء شرابا قطربّليّا أو عكبريا، فيغمس لحيته فيه، بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ويرشّ بعضهم بعضا، ويرقصون بأجمعهم، وعليهم الثياب المصبّغات ومخانق المنثور، فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم فى التوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة المشايخ الكبراء» (٣).

وظل هذا الترف طويلا فى مجالس الوزراء والسلاطين والأمراء، واشتهر عضد الدولة بمجالس أنسه فى بغداد وغير بغداد وما كان بها من السماع وغناء الجوارى والمغنين وألوان الفاكهة والرياحين وأقداح الشراب، ويقال إنه غنّى يوما بأبيات للخليفة المطيع لله وكان قد لحنها، فلم يعجبه لحنه (٤) وكأن الخلفاء وأبناء الخلفاء كانوا لا يزالون يضعون الألحان لبعض الأغانى كما مر بنا فى العصر العباسى الأول. وبدون ريب كان يعيش هذه المعيشة المترفة التى لا تخلو من خمر وغير خمر كبار القواد ورؤساء الدواوين والإقطاعيون وكبار التجار والموظفون. ويعرض محمد بن أحمد أبى المطهر الأزدرى-فى حكايته الطريفة عن


(١) معجم الأدباء ٥/ ١٥٣ وانظر الفن ومذاهبه فى الشعر العربى ص ٢٧٩.
(٢) معجم الأدباء ٩/ ١٣٨.
(٣) ابن خلكان ٣/ ٣٦٦.
(٤) معجم الأدباء ١٧/ ١٠١ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>