للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النقاب وتتناول عودا من ساج منقوشا بالعاج وتجسّ أوتاره وتفتتح غناء-كما يقول أبو القاسم-أعذب من تيار الفرات وتفتّته فى مجارى الحلق وتكسّره فى مجارى النّفس.

يقول: وهناك لا تسمع إلا شهقة عالية، ومقلة باكية، وجيبا مشقوقا، وفؤادا يطير خفوقا (١).

ولم نلم إلا بكلمات قليلة من وصف أبى القاسم لهذه الجارية المغنية، لندل على أن الغناء كان لا يزال مزدهرا ببغداد حتى القرن الخامس، ونظن ظنا أن هذا الازدهار ظل له طويلا، وغاية ما فى الأمر أنه لم يتح له عالم يؤلف فيه على نحو ما ألف أبو الفرج الأصفهانى كتابه الأغانى عن المغنين والمغنيات فى القرون الثلاثة الأولى للهجرة. وفى كتاب الإمتاع والمؤانسة لأبى حيان التوحيدى فى أوائل هذا العصر نص طويل (٢) يصور ازدهارا عظيما للغناء فى زمنه ومدى تأثر الناس به وطربهم عند سماعه على لسان المغنيات والمغنين، ويحكى لنا كيف كان شخص يسمى البردانى يطرب طربا شديدا حين يستمع إلى علوة جارية ابن علّوية، وهى تغنّى بأبيات للسّروىّ يقول فيها:

بالورد فى وجنتيك من لطمك ... ومن سقاك المدام لم ظلمك

ويسترسل أبو حيان فى وصف انفعال السامعين إزاء الغناء ببغداد فى عصره، من مثل ابن فهم، وكان يطرب إذا اندفعت «نهاية» جارية ابن السّلمى بشدوها:

أستودع الله فى بغداد لى قمرا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودّعته وبودّى لو يودّعنى ... صفو الحياة وأنى لا أودّعه

والبيتان من قصيدة أبى محمد على بن زريق وسننشد منها أبياتا أخرى فى الفصل الثالث. ولما سمعهما منها ضرب بنفسه الأرض وتمرّغ فى التراب وهاج وأزبد وتعفّر شعره، وهيهات من الرجال من يضبطه ويمسكه ومن يجسر على الدنوّ منه، فإنه يعضّ بنابه، ويخمش بظفره، ويركل برجله ويخرّق المرقّعة (رداء الصوفية) قطعة قطعة، ويلطم وجهه ألف لطمة، كأنه عبد الرازق المجنون بباب الطاق. وكثيرون كانوا يطربون طرب هذا الصوفى، فتنقلب حماليق عيونهم، ويسقطون مغشيا عليهم، ويرشون عليهم الكافور وماء الورد-كما يقول أبو حيان-ويقرءون فى آذانهم آية الكرسى والمعوّذتين، ويرقونهم رقى مختلفة، حتى يفيقوا من سكرتهم، منهم أبو الحسن الجرّاحى قاضى الكرخ، فإنه كان إذا سمع الجارية «شعلة» وهى تغنى أغنيتها:

لابدّ للمشتاق من ذكر الوطن ... واليأس والسلوة من بعد الحزن


(١) حكاية أبى القاسم ص ٥٠ وما بعدها.
(٢) الإمتاع والمؤانسة ٢/ ١٦٥ - ١٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>