ابتلّت شيبته بالدموع، مع شجن قد ثقب القلب وأوهن الروح وفتّت الصخر وأذاب الحديد، يقول أبو حيان:«وهناك ترى-والله-أحداق الحاضرين باهتة، ودموعهم متحدّرة، وشهيقهم قد علا رحمة له، ورقّة عليه، ومساعدة لحاله. وهذه صورة إذا استولت على أهل المجلس وجدت لها عدوى لا تملك، وغاية لا تدرك، لأنه قلما يخلو إنسان من صبوة أو صبابة، أو حسرة على فائت، أو فكر فى متمنىّ، أو خوف من قطيعة، أو رجاء لمنتظر، أو حزن على حال». ويسوق أبو حيان لنا صورا من طرب الشعراء حين سماع بعض الجوارى أو المغنين، فهذا ابن نباتة يطرب على صوت جارية تسمّى «خاطف» وهذا ابن حجاج يطرب على غناء قنوة البصرية، وهى جارته وعشيقته.
ويذكر أبو حيان أن الطرب كان يأخذ بابن صبر القاضى كل مأخذ، حين يستمع إلى «درّة» جارية أبى بكر الجرّاحى وهى تغنىّ:
لست أنسى تلك الزيارة لما ... طرقتنا وأقبلت تتثنّى
كم ليال بتنا نلذّ ونلهو ... ونسقّى شرابنا ونغنّى
هجرتنا فما إليها سبيل ... غير أنا نقول: كانت وكنّا
يقول أبو حيان:«وإذا بلغت: «كانت وكنا» رأيت الجيب مشقوقا، والذّيل مخروقا، والدمع منهملا، والبال منخذلا، ومكتوم السر فى الهوى باديا؛ ودليل العشق على صاحبه مناديا». ويعرض علينا أبو حيان صورا مختلفة من طرب الصوفية مثل المعلم غلام الحصرى شيخ الصوفية، ومثل ابن سمعون أكبر واعظ شهدته بغداد فى زمنه، فإن الطرب كان يقيمه ويقعده حين يستمع إلى ابن بهلول، وهو يزلزل الدنيا بصوته الناعم وغنّته الرخيمة وظرفه البارع ودماثته الحلوة. ويذكر أبو حيان جارية كانت تنوح تسمّى حبابه كانت فى النّوح واحدة لا أخت لها وقد تهالك الناس بالعراق على نوحها، يقول:
ورأيت لها أختا يقال لها «صبابة» كانت فى الحسن والجمال فوقها. . وزلزلت هذه بغداد فى وقتها، ولم يكن للناس غير حديثها لنوادرها وحاضر جوابها. ثم يقول أبو حيان فى ختام هذا الفصل الطريف.
«ولو ذكرت هذه الأطراب من المستمعين والأغانى من الرجال والصبيان والجوارى والحرائر لأطلت وأمللت وزاحمت كل من صنّف كتابا فى الأغانى والألحان. وعهدى بهذا الحديث سنة ستين وثلاثمائة. وقد أحصيت-أنا وجماعة فى الكرخ-أربعمائة وستين جارية فى الجانبين (جانبى بغداد الغربى والشرقى) ومائة وعشرين حرة يجمعن بين الحسن والحذق والظرف والعشرة. وهذا سوى من كنا لا نظفر به ولا نصل إليه لعزّته وحرسه