أبو العلاء فى مثل هذه الأفكار العميقة طالبا من قارئه أن يخفف من وطء أقدامه على الأرض.
لأن ترابها من أديم آبائه وأجداده، وكأن الأرض مقبرة كبرى، وكم من لحد فيها يضحك من تزاحم الأضداد فيه بين صالح وطالح. ولا يلبث أن يقول إن الحياة كلها تعب وعناء وشقاء لاضفاف له، وإن الحزن على الميت والفجيعة فيه لأضعاف السرور ساعة ميلاده. ولأبى العلاء مرثية ثانية يرثى بها صديقا من أبناء عمومته، وهى تكتظ بالحكم من مثل قوله:
لو عرف الإنسان مقداره ... لم يفخر المولى على عبده
أضحى الذى أجّل فى سنّه ... مثل الذى عوجل فى مهده
ولا يبالى الميت فى قبره ... بذمّه شيّع أم حمده
والواحد المفرد فى حتفه ... كالحاشد المكثر فى حشده
وربّ ظمآن إلى مورد ... والموت لو يعلم فى ورده
وديوانه الثانى اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم هو الأهم لأنه يحمل فلسفته أو تفكيره الفلسفى بجميع أسسه وشعبه، وقد تكلف فيه-كما يقول فى مقدمته-ثلاث كلف: الأولى أنه ينتظم حروف المعجم جميعها، والثانية أن رويّه يجئ بالحركات الثلاث ثم بالسكون، والثالثة أنه التزم مع كل روى فيه شيئا لا يلزم من باء أوتاء أو غير ذلك من حروف. وقد أوضحنا فى كتابنا «الفن ومذاهبه فى الشعر العربى أنه أضاف إلى هذه الكلف الثلاث كلفا كان يشغل بها الفراغ الطويل الذى نظم فيه اللزوميات إذ امتد الى نحو خمسين عاما. ومن هذه الكلف الدائمة ومنها العارضة أما الدائمة فاستخدامه للفظ الغريب وللجناس وقد التمس فيه ضروبا من التعقيد، كما مرّ بنا فى غير هذا الموضع، إذ يجانس تارة بين القافية وكلمة فى البيت وتارة ثانية بينها وبين أول كلمة فيه وقد يضيف إليها حرفا أو أكثر من الكلمة التالية ليستتم نسق الجناس. وبجانب هاتين الكلفتين الدائمتين فى اللزوميات نجد كلفا عارضة من تصنعه الواسع لألفاظ الثقافات المختلفة، بحيث يعدّ أول من وسّع استعارة الشعراء لاصطلاحات العلوم والفنون فى أشعارهم.
ومع كل هذه الكلف والصعوبات التى ضيّق بها الممرات إلى قوافى الديوان استطاع أن ينظم مجلدين ضخمين من الشعر، ضمنهما فلسفته أو تفكيره الفلسفى المتشائم وهو تفكير شغل فيه بإنسان عصره والإنسان عامة وبالقضية التى طالما شغلت كبار المفكرين قضية الشر الذى يصب على الإنسان والحياة الإنسانية صبّا دون أن يعرف أسبابه ودون أن يستطيع له دفعا أو ردّا. ويتسع به