فإِنه المحمود على ما خلقه وأَمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإِيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأَبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأَعدائهم، وهو المحمود على عدله فى أَعدائه كما هو المحمود على فضله وإِنعامه على أَوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأَرض ومن فيهن:{وَإِن مِن شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}[الإسراء: ٤٤] ، وكان فى قول النبى صلى الله عليه وسلم عند الاعتدال من الركوع:"رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد، مِلْءَ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بَعْد"، فله سبحانه الحمد حمداً يملأْ المخلوقات والفضاء الذى بين السماوات والأرض، ويملأُ ما يقدر بعد ذلك مما يشاءُ أَن يملأَ بحمده. وذاك يحتمل أَمرين: أحدهما أَن يملأَ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى أَن الحمد ملءُ ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك. الثانى أَن يكون المعنى ملءُ ما شئت من شيء [بعد] يملأه حمدك، أَى يقدَّر مملوءاً بحمدك وإِن لم يكن موجوداً. ولكن [قد] يقال: المعنى الأَول أَقوى لأَن قوله: "مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بعد" يقتضى أَنه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له. فتأَمله لكنه إذَا شاَءَ كونه فله الحمد ملأه، فالمشيئة راجعة إِلى المملوءِ بالحمد، فلا بد أَن يكون شيئاً موجوداً يملأه حمده وأَيضاً فإِن قوله:"من شيء بعد" يقتضى أَنه [شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه] بعد ذلك من مخلوقاته ومن القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق. وأَيضاً فإِنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأه الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمداً أَخبر به، وإِن ثناءَه ووصفه بأَنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاءُ بعد ذلك، وأَيضاً قوله "وملءُ ما شئت من شيء بعد" يقتضى إِثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثانى قد تتعلق المشيئة بملء المقدر، وقد لا تتعلق وأَيضاً فإِذا قيل:"ما شئت من شيء بعد ذلك" كان الحمد مالئاً لما هو موجود يشاؤه الرب دائماً، ولا ريب أَن له الحمد دائماً فى الأُولى والآخرة، وأَما إِذا قدر ما يملأه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إِلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأَعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم