للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة فى نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاءِ بعضه ببعض وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداءِ، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار، وهكذا المؤمن فى الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها فى هذا العالم أيضاً، فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير.

فصل

وقد تقرر أن الله سبحانه كامل الصفات له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل فى ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم، وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة، وكل مولود فإنما يولد على الفطرة التى فطر الخلائق عليها، ولكن الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم من الفطرة، ويعدلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرها، ولكن أخرجوهم عن سنن الحنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوبهم، وهكذا بالأضداد والأغيار يخرج بعض المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت فى مرتبتها كالملودُّ فى فطرته ولذلك أمثلة:

<<  <   >  >>