للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى وكان الله فى تلك الحال وليه لأَنه ولى من تولاه وحبيب من أَحبه ووالاه فأَصبح فى سجن الهوى ثاوياً وفى أَسر العدو مقيماً وفى بئر المعصية ساقطاً وفى أَودية الحيرة والتفرقة هائماً، معرضاً عن المطالب العالية إلى الأَغراض الخسيسة الفانية، كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوساً فى أسفل الحش:

فأصبح كالبازى المنتّف ريشه ... ذيرى حسرات كلما طار طائر

وقد كان دهراً فى الرياض منعماً ... على كل ما يهوى من الصيد قادر

إلى أَن أَصابته من الدهر نكبة ... إذا هو مقصوص الجناحين حاسر

فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أَعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له بأى شيء تعرض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً، وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً.

أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار، فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأَليم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه فى رضاه وطالباً رضى من سعادته فى إرضاء سواه، إِنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أَوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبداً أحبوه وإذا والى والياً والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل إنى أُحب فلاناً فأحبه، فينادى جبرائيل فى السماءِ: إِن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض، فيوضع له القبول بينهم، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته

<<  <   >  >>