للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"يشرب" معنى يروى، فعدَّى بالباءَ، وهذا ألطف مأْخذاً وأَحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من، [ولكن] يضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة الحذاق من النحاة وهى طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال فى الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً} [الإنسان: ٥] ، لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباءُ الدالة على شرب الرى بالعين خالصة ودلالة القرآن أَلطف وأَبلغ من أن يحيط بها البَشر.

وقال تعالى فى سورة المطففين: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَرْقُومٌ} إلى قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: ٧- ١٧] ، [فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال] ثم قال:

{كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى عِلِيِّينَ َمَا أَدرَاك مَا عِلِّيُّونَ} [المطففين: ١٨- ١٩] ، فهؤلاء الأبرارِ المقتصدون، وأَخبر أن المقربين يشهدون كتابهم- أى يكتب بحضرتهم ومشهدهم- لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهاراً لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه.

ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم فى وجوههم، ثم ذكر شرابهم فقال: {يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: ٢٥- ٢٦] ، ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسنيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: ٢٧- ٢٨] ، [التسنيم] أعلى أشربه الجنة، فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال:

{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبون} [المطففين: ٢٨] ، كما قال تعالى فى سورة الإنسان سواءً، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً.

وهذا لأن الجزاءَ وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابه.

يا لاهياً فى غمرة الجهل والهوي ... صريعاً على فرش الردى يتقلب

تأمل- هداك الله- ما [ثم] وانتبه ... فهذا شراب القوم حقاً يركَّب

وتركيبه فى هذه الدار إن تفت ... فليس له بعد المنية مطلب

<<  <   >  >>