عَلَى أَنْفُسكُمْ [فإنكم] لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ"، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى فأى حاجة بكم إِلى رفع الأَصوات وهو لقربه يسمعها وإِن خفضت، كما يسمعها إِذا رفعت، فإِنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أَعظم كان القرب أَكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى [كأنه يراه ويشاهده] . إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له ويستحيل عليه وإِلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفى مثل هذه الحال يقول: سبحانى، أَو: ما فى الجبة إِلا الله. ونحو هذا من الشطحات التى نهايتها أَن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه فى تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأَن يكون الإله أَقرب إِليه من كل شيء وأَقرب إِليه من نفسه، مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء، ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحاً إلى ما هو أَولى به، فقد قيل:
إِذا لَمْ تَسْتَطعْ شَيئاً فَدَعْه ... وجاوزه إِلى ما تستطيع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإِن كان بينهما غاية المسافة- ولا سيما إِذا كانت المحبة من الطرفين، وهى محبة بريئة من العلل والشوائب والأَعراض القادحة فيها- فإِن المحب كثيراً ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إِليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفى هذه الحال يكون فى قلبه وجوده العلمى، وفى لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أَن فى عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
خيالك فى عينى وذكرك فى فمى ... ومثواك فى قلبى فأَين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإِن قربت الأَبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أَن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإِن كان