للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين [بها] وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضى بها واطمأن إليها.

وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "مالى وللدنيا إنما أن كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها".

وفى المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه: أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلاً للدنيا فإنه وإن فوَّحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير، فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير، وقدر خسيس.

الثانى: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً وهى دار البقاءِ، وأن نسبتها إليها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع"، فالزاهد فيها بمنزلة رجل فى يده درهم زغل قيل له: اطرحه [ولك] عوضه مائة ألف دينار مثلاً، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزهد فيها لكمال [رغبته] فيما هو أعظم منها زهد فيها.

الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها، فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأْتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعاً، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك. فهذه الأُمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها، وتثبت قدمه فى مقامه. والله الموفق لمن يشاءُ.

النوع الثانى: الزهد فى نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأَكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد فى الحرام لسوءِ مغبته وقبح ثمرته، وحماية لدينه وصيانة لإيمانه، وإيثاراً للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأْثر لعدوه، ويسهِّل عليه الزهد فى المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم.

ويسهل عليه زهده فى الدنيا معرفته بما وراءَها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأَعلى. وأما الزهد فى النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان:

أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى [لها] عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهى أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك

<<  <   >  >>