للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه، فليس من عبيده الذين اختارهم لعبوديته. فلا ريب أن الإيمان الذى يثبت على محل الابتلاء والعافية هو الإيمان النافع وقت الحاجة، وأما إيمان العافية فلا يكاد يصحب العبد ويبلغه منازل المؤمنين، وإنما يصحبه إيمان يثبت على البلاءِ والعافية.

فالابتلاء كير العبد [محل] إيمانه: فإما أن يخرج تبراً أحمر، وإما أن يخرج زغلاً [غضاً] ، وإما أن يخرج فيه مادتان ذهبية ونحاسية، فلا يزال به البلاءُ حتى يخرج المادة النحاسية من ذهبه، ويبقى ذهباً خالصاً فلو علم العبد أن نعمة الله عليه فى البلاءِ ليست بدون نعمة الله عليه فى العافية لشغل قلبه بشكره ولسانه، اللَّهم أعنِّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وكيف لا يشكر من قيض له ما يستخرج خبثه ونحاسه وصيره تبراً خالصاً يصلح لمجاورته والنظر إليه فى داره؟ فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء، فإن قويت أثمرت الرضا والشكر.

فنسأل الله أن يسترنا بعافيته، ولا يفضحنا بابتلائه بمنه وكرمه.

فصل

المثال السادس: الحزن، قال أبو العباس: "وهو من منازل العوام، وهو انخلاع عن السرور، وملازمة الكآبة لتأَسف عن فائت أو توجع لممتنع. وإنما كان من منازل العوام لأن فيه نسيان المنة، والبقاءَ فى رق الطبع، وهو فى مسالك الخواص حجاب، لأن معرفة الله جلا نورها كل ظلمة، وكشف سرورها كل غمة. فبذلك فليفرحوا.

وقيل: أوحى الله إلى داود: يا داود بى فافرح، وبذكرى فتلذذ، وبمعرفتى فافتخر. فعما قليل أُفرغ الدار من الفاسقين، وأُنزل نقمتى على الظالمين".

اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين. ولهذا لم يأْمر الله به فى موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتب عليه جزاء ولا ثواباً، بل نهى عنه فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩] ، وقال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِى ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: ١٢٧] ، وقال تعالى: {فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: ٢٦] ، وقال: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا} [التوبة: ٤٠] ، فالحزن هو بلية من البلايا التى نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة:

<<  <   >  >>