صار فى يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقى، وفرق حب الله من قلبه كل محبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاءٍ، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإِيثاره وإِرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعددُ المطلوب وانقسامه قادح فى التوحيد والإِخلاص، وانقسام الطلب قادح فى الصدق والإِرادة، فلا بد من توحيد الطلب والإِرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإِذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمأَلوهه عن تأَله غيره صار من أَهل التوحيد الخاص، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أَو إِيثاره أَو معاملته أَو خوفه أَو رجائه. وصاحب توحيد [الربوبية] فى قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة الأُولى مجرداً عن أَمواله وصاحب الثانية مجرداً عن أَعماله وأَحواله، فصاحب الفناء فى توحيد الإِلهية مجرد عن سوه [مراضى محبوبه وأوامره قد فنى بحبه وابتغاء مرضاته عن] حب غيره وابتغاءِ مرضاته. وهذا هو التجريد الذى سمت إِليه همم السالكين، فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقاً، وهذا تجريد القوم الذى عليه يحومون، وإِياه يقصدون، ونهايته عندهم التجريد بفناءِ وجوده، وبقاؤه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراء هذا. ولعمر الله إِن وراءَه [تجريداً] أَكمل منه، ونسبته إِليه كفتلة فى بحر وشعرة فى [ظهر] بعير، وهو تجريد الحب والإِرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده من محبوبه [بمراد محبوبه] منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد المحب، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إِلا بهذا. فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأَنك إِنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أَنه أَهل أَن يحب. وأَما الاتحاد فى الإِرادة فمحال كما أَن الاتحاد فى المريد محال، فالإِرادتان متباينتان. وأَما مراد المحب والمحبوب إِذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد.
فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. وقد جعله صاحب "منازل السائرين" من قسم النهايات، وحدَّه