للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال الله تعالى فى حق المحبين: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَعَماً} [السجدة: ١٦] ، فلما تجافت جنوبهم عن المضاجع جافت الجنوب عنها واستخدمتها وأمرتها فأطاعتها. وقال القائل:

نهارى نهار الناس، حتى إذا ... بدا لى الليل هزتنى إليك المضاجع

ويحكى أن بعض الصالحين اجتاز بمسجد، فرأَى الشيطان واقفاً ببابه لا يستطيع دخوله فنظر فإذا فيه رجل نائم وآخر قائم يصلى. فقال له: أيمنعك هذا المصلى من دخوله؟ فقال: كلا، إنما يمنعنى ذلك الأسد الرابض، ولولا مكانه لدخلت.

وبالجملة فقلب المحب دائماً فى سفر لا ينقضى نحو محبوبه، كلما قطع مرحلة له ومنزلة تبدّت له أُخرى كما قيل: "إذا قطعت علماً بدا علم"، فهو مسافر بين أهله، وظاعن وهو فى داره، وغريب وهو بين إخوانه وعشيرته، ويرى كل أحد عنده ولا يرى نفسه عند أحد. فقوة تعلق المحب [بمحبوبه] توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه، وكلما هدأَت حركاته وقلت شواغله اجتمعت عليه شئون قلبه، بل قوى سيره إلى محبوبه.

ومحك هذا الحال يظهر فى مواطن أربعة:

أحدها: عند أخذ مضجعه وتفرغ حواسه وجوارحه الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه. فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه وشغل قلبه به.

الموطن الثانى: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه. [فإنه] إذا استيقظ وردت إليه روحه رد معها إليه ذكر محبوبه الذى كان قد غاب عنه فى النوم. ولكن كان قد خالط روحه وقلبه، فلما ردت إليه الروح أسرع من الطرف رد إليه ذكر محبوبه متصلاً بها، مصاحباً لها.

فورد عليه قبل كل وارد، وهجم عليه قبل كل طارق. فإذا وردت عليه الشواغل والقواطع وردت على محل ممتليء بمحبة ما يحبه فوردت على ساحته من ظاهرها، فإذا قضى وطره منها قضاه بمصاحبته لما فى قلبه من الحب.

فإنه قد لزمه ملازمة الغريم لغريمه ولذلك يسمى غراماً، وهو الحب اللازم الذى لا يفارق: فسمع بمحبوه وأبصر به وبطش به ومشى به، فصار [محبوبه فى وجوده فى] محل سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها،

<<  <   >  >>