للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلبه بين يدى محبوبه. والوسواس إنما ينشأُ من الغيبة والبعد، وأما الحاضر المشاهد فماله وللوسواس؟ فالموسوس يجاهد نفسه وقلبه ليحضر بين يدى معبوده، والمحب لم يغب قلبه عن محبوبه فيجاهده على إحضاره، فالوسواس والمحبة متنافيان، ومن وجه آخر أن [المحب قد انقطعت عن قلبه وساوس الأطماع لامتلأ قلبه من] محبة حبيبه فلا تتوارد على قلبه جواذب الأطماع والأمانى لاشتغاله بما هو فيه.

وأيضاً فإن الوسواس والأمانى إنما تنشأُ من حاجته وفاقته إلى ما تعلق طمعه به. وهذا عبد قد جنى من الإحسان، وأُعطى من النعم ما سد حاجته وأغنى فاقته، فلم يبق له طمع ولا وسواس، بل بقى حبه للمنعم عليه وشكره له وذكره إياه فى محل وساوسه وخواطره لمطالعة نعم الله عليه، وشهوده منها ما لم يشهد غيره.

وقوله: "وتلذذ الخدمة" هو صحيح، فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه فى طاعته، وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل، فليزن العبد إيمانه ومحبته لله بهذا الميزان، ولينظر هل هو ملتذ [بخدمته كالمد والمحب بخدمة محبوبه] ، أو متكره لها يأْتى بها على السآمة والملل [واللوامة] ؟ فهذا [محل] إيمان العبد ومحبته لله.

قال بعض السلف: إنى أدخل الصلاة فأحمل هم خروجى منها ويضيق صدرى إذا [عرفت] أنى خارج منها، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم "جعلت قرة عينى فى الصلاة"، ومن كانت قرة عينه فى شيء فإنه يود أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به.

وقال بعض السلف: إنى لأفرح بالليل حين يقبل، لما يلتذ به عيشى وتقر به عينى من مناجاة من أُحب، "وخلوتى بخدمته والتذلل بين يديه، وأغتم للفجر إذا طلع، لما اشتغل به بالنهار عن ذلك، فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته.

وقال بعضهم: تعذبت بالصلاة عشرين سنة، ثم تنعمت بها عشرين سنة. وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة [على النكرة] والتعب أولاً، فإذا صبر عليه وصدق فى صبره أفضى به إلى هذه اللذة.

قال أبو زيد: سقت نفسى إلى الله وهى تبكى، فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهى تضحك، ولا يزال السالك عرضة للآفات والفتور والانتكاس حتى يصل إلى هذه الحالة، فحينئذ يصير نعيمه فى سيره ولذته فى اجتهاده وعذابه فى فتوره ووقوفه، فترى أشد الأشياء عليه ضياع شيء من وقته ووقوفه عن سيره، ولا سبيل إلى هذا إلا بالحب المزعج.

<<  <   >  >>