فلا يقال: الصبر صون القلب عن اعتقاد أضدادها، هذا بعيد جداً وتكلف زائد لتفسير الصبر، وهل فهم أحد قط هذا المعنى من قوله تعالى:{يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا}[آل عمران: ٢٠٠] ، وقوله تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}[الطور: ٤٨] وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللهِ}[النمل: ١٢٧] ، وقوله:{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ}[طه: ١٣٠، وسورة ق: ٣٩][وقوله تعالى:]{وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[الأنفال:٤٦] ، وسائر نصوص الصبر.
ومن العجب جعل الصبر الذى هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيره بهذا التفسير، نعم يجب على كل مسلم أن ينزه الله سبحانه وتعالى عن أن يقضى قضاءً ينافى حكمته وعدله وفضله وبره وإحسانه، بل كل أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة، وإن كان كثير من المتكلمين ينازع فى هذا الأصل ويقول: الذى ينزه الله عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأما الممكن فلا يقبح منه شيء، وهؤلاء لا [معنى] صون القلب عن خواطر السوءِ المتعلقة بما يقضيه الله عندهم إلا صونها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط.
وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكل مقام مقال. وأما استشهاده بقوله تعالى:{وَلِيُبْلِى الْمُوْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}[الأنفال: ١٧] ، فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداءِ، وليس من الابتلاءِ الذى هو الامتحان بالمكروه، بل من أَبلاه بلاءً حسناً إذا أنعم عليه، يقال: أبلاك الله ولا ابتلاك، فأبلاه بالخير، وابتلاه بالمكاره غالباً كما فى الحديث:"إنى مبتليك ومبتل لك".
فصل
قال: وحزنهم يأْسهم عن أنفُسهم الأمارة بالسوءِ: {إِنَّ الإِنْسَانِ لِرَبِّهِ لَكَنُود}[العاديات: ٦] ، وقد تقدم أيضاً الكلام على ما ذكره فى الحزن، وأما تفسيره إياه أنه "يأْسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء" فليس بالبين، فإن الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه، وإن تعلق ذلك بالماضى كان حزناً وإن تعلق بالمستقبل كان خوفاً وهمّاً.
وأما "اليأْس عن النفس الأَمارة بالسوءِ" فليس بحزن، ويمكن أن يكون مراده أن حزنهم ينشأُ عن النفس الأمارة بالسوءِ"لا عن المطمئنة، فإن [النفس] المطمئنة